كهرمانتنا التي لا تزال تصب مائها على الأربعين(حرامي). والتي كانت في ألف ليلة وليلة تصب الزيت المغلي من خلال فتحات(البساتيك) الأربعين على قحف جماجم اللصوص الذين خدعتهم بحشرهم داخلها. وعلينا تخيل قساوة هذا الفعل(القتل) السادي. وتاريخنا الغابر والمعاصر مليء برعب وسادية حوادثه. فلو فعلها المرحوم(محمد غني) وجعلها فعلا تصب الزيت ذاته على(بساتيكه) الأربعين(بالتمام والكمال), لحدثت كارثة بيئية تتمثل: أولا في كثافة البخار الساخن الذي سوف يغطي الساحة كلها, إن لم يتجاوز على فضائات أبنيتها المحيطة. وثانيا سوف يحدث التلوث أو التسمم الذي لم ينجو منه العابرين لفعل تكرار تسخين الزيت حد احتراقه وتناثره على عباد الله. ونحن في غنى عن هذا التلوث الجديد, بعد أن ضرب تلوث أسلحة اليورانيوم أطنابه في ربوع بلدنا. فهل يا ترى انتبه نحاتنا محمد غني حكمت لهذه الزلة. وهل علينا أن نتحمل أعباء زلات أخرى في مرجعيات دلالات أنصابنا التذكارية الجديدة.
نعيد تساؤلاتنا بصياغة مشابهة, ومختلفة, في آن واحد عن مرجعيات دلالات و رموز وشكل نصب العراق الجديد( الذي فاز في المسابقة) والذي من المؤمل البدء في تنفيذه في ساحة الفردوس, ولو من باب الاجتهاد(والمجتهد لها حسنات ان أصاب, وحسنة واحدة إن اخطأ) كما علمنا الزمن العراقي الحالي.
بعد إعادة المسابقة الأولى التي لم تكن نتائجها مشجعة, تم اختيار مصغر النصب(الماكيت) الذي صنعه النحات (عباس غريب). في اعتقادي أن لعامل الوقت الممنوح لزمن المسابقة(60 يوم) دور في حسم قرارات اللجنة المسؤلة عنها. بما أن بغداد سوف تكون عاصمة للثقافة العربية العام القادم. فعلينا أن نظهرها بالمنظر اللائق بها. ومن ضمن هذا المظهر استحداث نصب للعراق في هذه الساحة التي شهدت رمز القضاء على النظام الدكتاتوري السابق. وان كان هذا الأمر مبررا ظاهريا. فلا يعني أن نجازف بإنشاء نصب يمثل العراق, وسوف يبقى أثرا دائما لفننا وعمارتنا المستقبلية( واكرر, المستقبلية) والذي سوف يعبر بنا للزمن المعاصر كما في العديد من المدن العالمية وحتى العربية الجديدة. فهل راعى مصمم النصب ولجان التحكيم والقرار السياسي ذلك في اتخاذ هذا القرار. أو كما هو الحال السابق تبقى هكذا مشاريع خاضعة للقرارات الآنية والمستعجلة.
لنبدأ بكونه نصب يتعدى التفاصيل النحتية الى الشكل(الفورم) المعماري. فهل يتحقق هذا الشكل في هذا التصميم الفائز. اعتقد أن جزء من هذا الجواب متوفر في الأنصاب المتشابهة الأهداف الموجود في العديد من دول العالم, شرقها وغربها, والتي اشرف على تنفيذها معماريون مشهود لهم كفاءتهم المهنية محليا وعالميا. فتصب كهذا(يحمل اسم البلد بإرثه وحاضره ومستقبله) سوف يتحول الى إيقونة لا يمكن إغفال هيمنتها الصورية في زمن الصورة الحالي. فهل خلا العراق من معماري كفء لفعل هذه المعجزة(من الإعجاز الإبداعي). علما بأنه ربما سوف يتعاون أو يختار الفنان أو النحات الذي سوف ينفذ له التفاصيل النحتية المتممة لهيكلية النصب وبما يتفق مع أسالبيه التصميمية, إن احتاج الى ذلك.
هل أقنعنا النحات عباس غريب بان هيكله النحتي هذا يمثل بغداد المدورة(من ضمن تفسيراته). اعتقد انه يتعذر علينا استحضار هذا التصور كما نفذه. لكن المعمار سوف يلجأ الى وسائله التصميمية الحديثة ليستنبط لنا تصورا معاصرا لهيكلية بغداد المدورة(الأثرية) بثقل استقرار إنشاءاتها الأرضية. مثلما استطاع المعماري الشاب(منهل الحبوبي) مصمم بناية مجلس الوزراء من تحويل الرمز الأثري الى هيكل نصب معماري معاصر, وكان مقنعا في تفسيره لمراحل التحول من شكل الرمز الأثري الى الهيكلية المعمارية(الفورم) المعاصر.
في سعفاته ألثمان عشر(محافظات العراق) المفترضة, فقد النحات جوهر شكل السعفة, وكاختزال معماري(وبالمناسبة, وجريا مع عناصر تصوراته, فان السعف(نخل) لا يتواجد في بعض محافظات العراق. لكن ولع نحاتينا بالتفاصيل الكثيرة(وليس بالاختزال والتحوير المعاصر) هو الغالب في عملية إنشاء تصوراتهم. واعترف بأنه ولع موروث(الأرابسك) و ينقصنا الحس الاختزالي وصولا لجوهر الفكرة, لا بعثرتها. وهنا في هذا النصب نجد بعثرة لتفاصيل كثيرة تفقدنا حس التأمل. واعتقد أنها وبهذا الشكل بعثرت عناصر التصميم المعماري(وهو مطلوب في هكذا نصب), وجعلت مظهريته العامة اقرب الى شكل الكأس أو المزهرية أو أية آنية زخرفيه إن لم تحيلنا الى أشكال متداولة اقل أهمية. أو ربما إذا نفذ بشكل مصغر جدا من الممكن استثماره كحلية مجسمة مع بعض الإضافات المناسبة. ويبقى المهم بالأمر أن يقنعنا هذا المصغر(الذي سوف ينفذ, أو ربما الذي بدأ العمل في تنفيذه) بمعاصرتنا وحتى بتعدي زمننا المعاصر, كونه نصبا مستقبليا يتجاوز الزمن الفولكلوري الماضي الذي درج الكثير من فنانينا على التغزل بتفاصيله.
السطح النحتي الاسطواني(بغداد المدورة المفترضة) مكتظ بتفاصيل نحتية مستعارة من حضاراتنا السابقة وحتى العصر العباسي ودور العبادة, وهي مجرد استنساخات لم يخضعها النحات للاختزال أو الدمج أو التحوير المعماري, ليستخلص منها نصا معماريا يوازي وظيفة النصب الرمزية ومعماريتها المستقبلية. بالتأكيد هو يفكر بكونه خطاب مفصل على مقاس سياسي مؤدلج(وسياساتنا السابقة والحالية مؤدلجة). لكن من المؤكد, و من ضمن عبر الدرس التاريخي العراقي, ان النصب الوطنية ليست ملكا لأحد, وإلا, ليقيم أولياء الأمر أنصابهم الخاصة التي تتوافق واد لجتهم في بيوتهم وعلى قدر مقاساتهم السلوكية والفكرية. وكما تشهد على ذلك بعض الأنصاب المنفذة في العهد السابق.
من ضمن اقتراحات النحات الفائز إدخال الإنارة الليزرية لزيادة الإدهاش. لكن وفي اعتقادي فان هذه الإنارة لا تكن ضرورية, فيما إذا كان النصب مكتفيا بشكله(الفورم) ألنصبي المعماري, وكما في الأنصاب العالمية المتشابهة الأهداف. فالإنارة الليزرية سوف تغيير من طبيعة ملمس مادة النصب بأطياف ملونتها ووهجها. وان كان من ضرورة لذلك, فاعتقدها لا تتعدى الاستعراض. وهذا يحيلنا الى هدف الاستعراض وولع الاستعراضات المبالغ فيها التي ابتلينا بها.
أخيرا, وليس آخرا, لا اعتقد بان ساحة الفردوس المقترحة لإنشاء هكذا نصب وبهذه الضخامة, مناسبة. إذ لو انشأ النصب في إحدى فضائات مساحة خضراء واسعة توفر مكانا مناسبا لزواره, وربما أيضا لوضع التماثيل الشخصية لرواد الثقافة والعلم والنابهين, ولو كتماثيل نصفية. وبهذا الشكل يشكل النصب ومكانه مزارا محليا وعالميا. لا ان ينشأ في مكان مغلق كساحة الفردوس والتي يعز على المواطن زيارته, لكونه يقع في ساحة مرورية دائرية مغلقة المنافذ. وان كان من ضرورة لإنشاء نصب ما في هذه الساحة(لهدف سياسي لا يخفى). فليكن مناسبا من الناحية الرمزية, لا أكثر. وليبقى كعلامة على ما حصل من تغيير سياسي ووطني.
اعتقد أن في منظومتنا الثقافية المؤسساتية(صاحبة القرار الثقافي الرسمي) ثم خلل في طريقة التفكير. يتمثل في الولع في تشتت التفاصيل, لا في وحدتها أو توحدها او اختزالها, للحد الذي يصبح هذا التفكير قاصرا عن إدراك أهدافه وغير مثمر. وكما هو الحال في استحداث علم وشعار ونشيد وطني جديد للعراق الذي من المؤمل فيه ان يكون جديدا بالفعل. هذه المؤسسات المعيقة في طرق منظومتها الفكرية والسلوكية المبعثرة التفاصيل, مابين الملة والنحلة والغلة, ضيعت علينا فرصة إعادة أو تقويم مسارات سلوكنا الثقافي والشخصي, وإعادة ترميم ما تبقى لنا من أمل للحاق بركب التقدم الحضاري المعاصر. فإلى متى نبقى متعثرين بأذيال تفاصيل آثارنا, دون فهم كامل لمتطلبات عصرنا. وهذا ما أوصلنا الى توسع الهوة مابين المثقف و السلطة, وبمبادرة ومثابرة منها, كما تثبت الحوادث ذلك. وبقي المغترب مغتربا لا حول له ولا قوة له في المساهمة أو التطلع لبلده الذي أقصته عنه ألاعيب السياسة الخبيثة.
أمثلة نصبية عالمية:
من الأمثلة المعاصرة البارزة. النصب النحتي(1) الذي صنعه الفنانين الألمانيين(2) في برلين عام(1987) والذي يمثل وحدة ألمانيا, بعد توحيد شطريها الشرقي والغربي. والنصب يمثل الفكرة الوطنية باختزال عال. صنع على شكل أنابيب معدنية متعانقة بحركة لولبية تجريدية تمثل عناق الناس لبعضها, كناية عن الوحدة الألمانية. كما أتاح له مكانه الذي انشأ فيه مجال رؤية مفتوحة, إضافة الى تناغمه وبقية منشات الشارع وحتى الأثرية العملاقة منها. ونستخلص من ذلك: انه وبالرغم من اكتضاض الإرث الألماني الأثري والفكري, فان الفنان حاول جهده لاستخلاص مدلول معاصر ينسجم وغاية إنشاء نصبه.
من الأمثلة المعمارية الأخرى نصب باكستان الذي نفذه المعماري(مسعود عارف) والذي حقق فيه وحدة مقاطعات باكستان بتصميم معماري يتوسطه علم البلاد. كذلك النصب المعماري الوطني في تايوان(3). و مشروع المعماري البرازيلي الشهير(أوسكار نايمير) النصب التذكاري لأمريكا اللاتينية في مدينة ساو باولو. إذا ما عرفنا بان نصب معمارية ونحتية في العالم, تمثل الآن بلدانها كعلامات وطنية فارقة. مثل: تمثال الحرية في نيويورك, برج إيفل في باريس, تاج محل في الهند, والساحة الحمراء في موسكو, والشراع في دبي و غيرها.
في الختام, علينا اخذ العبر في هذا المجال الإبداعي العام ـ الخاص في نفس الوقت, من خلاصات موروثنا الأثري, وغير بعيد عن زمننا المعاصر, لندخل عصرنا بما يحاذي ثقافاته الخاصة, وبدون التعثر بأذيالنا.
.................................................................................................................
Tauentzienstraße 1-
2 -Matschinsky-Denninghof
3- The National Chiang Kai-shek Memorial Hall is a famous monument in Taipei, Taiwan
.............................................................................................................
علي النجار
بافلو ـ نيويورك 2012ـ09ـ10