اذا اراد المتلقي ان يذهب الى اقصى ما تبقيه الحرب من ذاكرة الفنان، عليه ان يتامل اعمال الفنان محمد الشمري لا يمكن ان تغادر ذلك الاحساس بتصحر روحك وانت تصاحب اعماله على القماشة.
انه يمنحك وردة الغياب والعقم في كل لوحاته.
لقد مارست الحرب الغاء قاسيا لذاكرة طفولته وجردته من فرحة الوانها ولم تبق له اي علاقة بوجوده ولكن رد فعله كان الغاء مقابلا فهو لم يمنح الحرب متعة الانتصار عليه فالغى مدافعها وخوذ مقاتليها وازيز رصاصها تاركا قماشته على وحشتها وعقم عالمها نقية من رموز الحرب وما تبقى انه حاول ان يستنطق ذاكرته للمرة الاخيرة فلم تفلح في ان ترسم على قماشته سوى ما يتكرر على مرآه من رموز غادرتها المواني على رصيف ذاكرته المتعطشة لاي شيء،
فكانت الحروف والعلامات التجارية والرموز المطبوعة على صناديق التحميل، هذه الصناديق الكائنات الوحيدة التي استطاعت ان تحرك احساسه بكلماتها المقتضبة ورموزها الدالة وربما لا يتفق معنا ونحن نتعامل مع هذه المفردات بوصفها ملجا حواره الاخير وقد يراها الحقيقة الوحيدة الثابتة في مخيلته التي اعتادت المحو والالغاء فلا يوجد هناك لحقيقة ثابتة، و الحب لا يجد الوقت الكافي ليحافظ على ما تبقى من طفولته ووحدها علامات الموانيء وصناديق الشحن بقيت تقاوم حملات الالغاء الماحقة.
لقد منحه تكررها ملجا ولو صغيرا ليقول شيئا ما, اما الباقي فهو مجرد بقع ولطخات لونية سائبة تحاول ان تنتمي لعالم اللون الذي اعتاد ان يعرفه ولكن حتى هذا اللون اسير عالم الوحشة وماتخلفه من نزيف وظلمة في الروح. كيف يمكن ان يعيش محمد مع كل هذه الوحشة وهل يمكن ان تكون هذه هي الحياة كما يراها على القماشة هل نحن ننظر من خلال لوحاته الى حياتنا او هل نجرؤ ان نتفق معه على ما يراه ؟
حين نصادف لوحاته في البدء، ننكرها لاننا رغم كل ما نعاني ورغم كل الشكوى نحب الحياة ونريد ان نراها كما نتمنى ولكننا امام لوحات محمد الشمري ومع الوقت سنتقبل حقيقة الامر ونعود مرة اخرى نداعب رموزه الملصقة على صناديق الارصفة وموانئ الرحيل ونتقبل ال وانه بوصفها جزءا من واجهة حياتنا القاحلة النازفة ونستطيع ان نميز الوانه كما هي فالاخضر ليس حقلا او ارضا معشبة، وانما هو ما يتركه العفن على صناديقنا التي نحملها على اكتاف ايامنا وهي تنتظر رحلة ما.
كذلك الرموز تصبح مع الوقت اكثر الفة وهي تذكرنا بما ينكسر يوميا في قلوبنا المحمية في صدورنا، بانفاسنا الثقيلة وتذكرنا بان للاشياء قمة وارضا، تمنعنا من قلب الصناديق راسا على عقب وان كان ما نعيشه لا يعترف بذلك، ولكن هل نستطيع ان نجاري محمد الشمري الى اخر الشوط ونحن نقرا على صناديقنا اسم بغداد وبعض الحروف والارقام؟
هل يشاكسنا محمد ويربك ادراكنا نحن الذين اوينا الى رموزه بعد تعنت وصد؟
لماذا يعيد لذاكرتنا ما يوجعها؟
ام انه لم يتخلص هو نفسه من ذلك النداء العميق الذي يتكرر على قماشته. هل يرسم اسم بغداد كتعويذة يحملها في هذا الضياع البعيد؟ الم يعد في قماشته متسع لغير هذا الاسم ام ان علينا ان لا نلومه على ذلك ونحمله على ان يبحث عن بغداد في انقاض سنواته القاحلة ؟
يبدو ان محمد الشمري قد يئس من البحث وربما هو يخشى ان يضيع في البحث ما تبقى من مؤونة في الروح وهي التي تعبت من فراق المرافئ، فآثر ان يلون قماشته بما تبقى، وان كان ما تبقى ارضا قفرا تحكي قصة صراع قاس خاضته الطفولة مع الموت، لم يبق عناد الفنان فيه زادا للمتلقي، فليس هناك الا الوحشة والرحيل و اشارات الموانئ العنيدة واسم بغداد.
لقد اثر محمد الشمري ان تكون قماشته الشاهد الاخير لتلك الرحلة القاسية، ولم يتورع عن ان يمسك بوحشته و نزيفه وبقايا ذاكرته ليلقي بها امامنا لنواصل البحث عما لم تستطع سنواته ان تدله عليه. |