واليوم يقدم لنا كتابه الثالث والمهم جداً، ولكن بصمت وهدوء كعادته، خوف ان يوقض فينا ماكنا نطمح اليه، وهو كتاب عن الشخصيات العراقية المبدعة وخاصة الفنانين الذين واكب مسيرتهم كونه واحداً منهم وتتبع جولاتهم من أقصى الشمال الى أقصى الجنوب: فائق حسن، جواد سليم، عيسى حنا، الرائد المنسي – الذي بلغ التسعين من عمره من دون ان ينتبه اليه أحد- محمود صبري، زيد صالح، خالد الجادر وغيرهم من قامات العراق الشامخة، إضافة الى موجز لسيرته الذاتية مستنداً الى الذاكرة وبعيداً عن مصادره ووثائقه وأفلامه التي أحرقها لصوص النظام السابق والذين يكملون اليوم ولكن تحت مسميات جديدة، تدمير ما يقع تحت أيديهم من الثراء العراقي وإنجازاته الخلاّقة.
سأتناول في هذه المقالة، واحدة من الصور التي يتضمنها كتابه الجديد، وهي صورة الفنان الرائد والكبير محمود صبري، بمناسبة بلوغه الثمانين من عمره، والذي يحتفل به الوسط الديموقراطي العراقي متأخراً عاماً كاملاً عن المناسبة، كالعادة، لأسباب ليس هذا مكانها.
الصورة تمثل محمود صبري وهو جالس في مرسمه وأمامه لوحته الشهيرة التي رسمها عام 1956، تضامناً مع الشعب الجزائري الشقيق (لقد طلبت من احد مدراء الثقافة في أحدى الولايات الجزائرية بدعوة الفنان محمود الى الجزائر، بمناسبة اعتبار الجزائر عاصمة الثقافة العربية عام 2007، وهو عام بلوغ محمود عامه الثمانين، لكنه كما يبدو، لم يدرك أهمية ذلك، كعادة أكثرية مسؤولي الثقافة في عالمنا العربي المغلوب على أمره،مع أن هذا العمل يمكن إعتباره أول عمل تشكيلي عربي وربما أجنبي، يصور الثورة الجزائرية التي إنطلقت عام 1954) اللوحة فيها من تأثيرات الفن المكسيكي ومن جورنيكا ما هو واضح، ولكن لمصلحة الفنان محمود وليس العكس، حيث تبرز هذه التأثيرات كيفية الإفادة من الآخر دون الوقوع في التقليد الساذج الذي نراه عادة في أعمال الكثير من الفنانين الذين يحاولون القيام بأعمال مماثلة.
محمود في عنفوانه واللوحة في كامل هيأتها والمرسم يظهر ذوق الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي (1940- 1960).
الصورة تعطينا روح ذلك الزمان، روح الحداثة الواعية والمستندة الى إرث البلاد والثقافة الرافدينية العريقة، وتختصر فن محمود حيث الثورة هي مادتها الأساسية، والى جانبها لوحة العاملات العراقيات (الشرقاويات) وهن يحملن تعب السنين على الرؤوس والأكتاف، نساء غالباً ما أظهر معاناتهن الفنانان محمود صبري وناظم رمزي، كل بأدواته الخاصة القريبة الى نفسه.
في ذلك الزمن كان هذا الجيل _ جيل ناظم ومحمود – يؤسس لعالم خارج تواً من بحر الظلمات ومنطلقاً نحو عالم النور والحياة، كان مشروعهم آنذاك، يمثل خلاصة ما توصل اليه العقل العراقي المتنور والحديث، بعيداً عن تحديدات ووصايا الأموات التي تتحكم بالأحياء كما هو حال أيامنا هذه الصورة إذن ليست عابرة أو بمناسبة ما، إنما هي تأكيد لذلك الهم الذي ما نزال نحاول الوصول أليه حتى هذه الساعة.
فكم من الوقت قد راح هباءاً منذ تلك اللحظات التي التقط فيها الفنان رمزي هذه الصورة للفنان محمود وهو يمتطي كرسيه لإكمال ما بدأ به، وما وصلنا أليه اليوم؟
أفليس ذاك سوى هباء؟
حلم ودورة أسطوانة؟
إن كان هذا كل ما يبقى فأين هو العزاء؟
.......
.......
.......
الشمس أجمل في بلادي من سواها، والظلام
– حتى الظلام– هناك اجمل، فهو يحتضن العراق..
واحسرتاه، متى أنام
فأحسّ أن على الوسادة
من ليلك الصيفي طلاً فيه عطرك ياعراق؟
ناظم رمزي، يوثق لنا الحياة، بكل تعقيداتها وتلاوينها، ومحمود صبري يسجل لنا المواقف والمشاعر ويقظة الضمير .
في الصورة نرى نساء محمود صبري، اللواتي يحملن عناء العراق على الرؤوس، بوجوههن المتعبة وصبرهن الأبدي الصامت، بآلامهن الدفينة وقهرهن المضاعف والمزدوج، حيث لايجدن أمامهن سوى نبات الصبّار الصحراوي، الذي يشبههن في المعانات والقوة، ونشاهد المناضلين الجزائريين وهم يواجهون قوات فرنسا والحلف الأطلسي عرايا إلا من الإيمان بعدالة قضيتهم، والفنان الواثق من إنتصار الشعوب، والمصور الفنان ناظم رمزي الذي سجل لنا هذه اللحظة الفريدة بامتياز، كلاهما أسهم في خلق تلك اللحظة النابضة بالأمل والثقة بكل ما هو نافع ومفيد وقادر على الإستمرار.
إذن ماذا حل بالعراقيين اليوم، الذين يتطوعون بضرب الصدور وجلد الظهور بالسلاسل وضرب الرؤوس بالقامات؟ وقتل بعضهم البعض بسبب الأسماء والطوائف أو الأديان؟
كيف يهجّرون بعضهم؟
من أين اتتهم هذه الثقافة الغريبة عليهم؟
عراق الخمسينيات، هو عراق التطلعات الناضجة والعقلانية الباهرة، عراق يخطط للمضي في ركب الحضارة والمدنية والنور والقيم الإنسانية النبيلة، عكس عراقنا الخالي الذي تتحكم فيه العصابات وقاطعي الطرق والقتلة واللصوص.
كان ناظم رمزي وهو يؤسس للطباعة الحديثة في العراق، الى جانب رفيقه الأقدم الفنان الرائد عيسى حنا – له العمر الطويل – يعرف جيداً مصاعب الطريق، لكنه بشخصيته المنفتحة والشعبية بامتياز ومع مواهبه المتعددة،يعرف أيضاً كيف يؤسس لخطواته الأولى مواقع قدم راسخة، كيف لا وهو محاط بعباقرة الثقافة العراقية من جميع الجهات وفي فترة إنبثاق ثلاثية المعجزة العراقية المعاصرة: الفن العراقي الحديث - الشعر العراقي الحديث والفكر التقدمي الحديث.
أن مسيرة هذا الفنان تشكل سجلآً مشوقاً ليوميات مثقف عراقي من جيل النهضة الحدية في العراق، فهو مصور في فلم عليا وعصام ورساماً في الصحافة ومصمماً ومطوراً طرائق طباعية متنوعة ورساماً تجريبياً مهماً. لم أكن أعرف ناظم رمزي بشكل شخصي قبل قدومي الى بريطانيا، فقد كنت أسمع عنه سابقاً ولكني لم ألتقه مرة ونحن في العراق، كانت الكتب التي يطبعها والتصاميم والحروف الطباعية وخطوطه المبتكرة التي يبدعها، تثير فينا الدهشة والفضول، كما كان كرمه مع المبدعين حديث الجميع.
عندما زرته وبملحّة مني في مشغله الواقع بالقرب من محطة مترو الـ (With City)، كنت أتوقع أن أرى شخصاً متعالياً وربما مضطراً لإستقبالي تحت ملحتي وفضولي وقد أعددت نفسي لمثل هذا الاحتمال، لكنني وجدت رجلاًَ في منتهى البساطة والتواضع، وليس هذا فقط، بل أخذ يسألني عن رأيي في تصميمه لكتاب القرآن الذي كان منهمكاً به مما أحرجني آنذاك، أنا القادم لأخذ المشورة منه.
ورمزي فوق هذا وذاك صاحب نكته وطرائف عديدة فهو جليس محبوب والقعدة معه لاتعوّض.
ربما تسنح لي الفرص في القادم من الأيام للكتابة عن هذا الفنان المبدع والمتنوع، مع أنه يرفض حتى أخذ صورة له ويتذمر من طلبك له في إجراء لقاء معه، ومنذ تعرفي عليه وأنا ألح في إجراء حوار مطوّل معه لكنه يرفض ذلك بعناد لا أفهمه حقاً، ما يشكل عائقاً امام المتتبع لنشاطه والحريص على تقديمه الى مواطنيه من العراقيين.