ما الذي يمكن ان نلخصه في تجربة الفنان التشكيلي العراقي كامل حسين في معرضه الشخصي التاسع ( الأخير) الذي أقيم في قاعة أكد للفنون التشكيلية (بغداد) بعنوان (ذاكرة النسيان)..؟ ما الذي يدور في ذهن الفنان وهو يغور في أعماق لوحاته حد التساؤل الملمح، هل هي نهاية المنعطف في إلغاء الحدود داخل لوحاته؟.. هناك نقطة استوقاف تأملية.. وهناك قراءات جديدة تفتح العديد من الرؤى لتحليل أعمال المعرض الذي دخل فيه الفنان في كسر ثوابته السابقة، فأنا متابع لأعماله السابقة خصوصاً ما قدمه في معرضيه الأخيرين قبل المعرض هذا، وكان لدي أكثر من حوار صحفي معه.
(كامل حسين)، فنان ملهم وجاد يحاول قراءة أعماله بأساليب جديدة رغم تمسكه بالموضوعة الأساسية في صياغة لوحاته بتجربة مفعمة بالحس الرومانسي، وهذا ما سهل عملية اشتغاله المستريح على اللًعب بـ(الثيّم) وإعطاء أشكال لها حدودها المفتوحة.. نستخلص ما شاهدناه ونحن ننقب في لوحات المعرض الدلالات الموضوعية الموحية في أعماق الأشياء، بمعنى هناك جهد فني قائم على خصوصية متفردة ومستجلية من جوهر الفكرة المراد طرحها داخل كل لوحة، إنها محاولة تأسيس أشكال ترتبط بما هو حسي وهاجسي، قبل ان تكون هناك موضوعة مباشرة لها تحليلاتها الشاخصة. ثمّة علامات تبرز في لوحات المعرض، علامات (مبأرة) لأشكال آدمية وأخرى حيوانية وأخرى أسطورية، وما الى ذلك، لكن هذه لا تعني لعبة تهويمية بقدر ما تعطي قراءات دلالية معنيّ بها المتلقي بالدرجة الأساس، باعتبار المتلقي جزءاً من العمل، بل هو المعني بكل ما ينتج، ولو رجعنا الى أعماله السابقة نلمس وضوح أشكاله المرسومة بتجريدية لها خيوطها التعبيرية والرمزية معاً، لكن المعرض هذا، فاجأ الجميع بأنه ألغى كل حدود الأشكال السابقة ليدخل الأعماق أكثر فأكثر، وكأنه يشعر بأن ما قدم سابقاً هو شفرة للدخول الى الأعمال هذه .. سؤالنا يظل موجهاً للفنان، هل انطوت تجربتك بإحساس صوفي مقصود..؟ أم هي طريقة فنية لإلغاء حدود المألوف في الرسم..؟ لذلك اتضحت تجربة (كامل حسين) من خلال بنائه الأسلوبي البائن، بأنه يظل مفتوحاً لاكتشاف العديد من الأشكال، وهو لا يريد الانتماء الى شكل ثابت بقدر ما يصنعه من فتوحات تشكيلية خاصة به، فتوحات لها أسلوب خاص فـ(الأسلوب لا يصنع رسماً.. فالرسام هو الذي يصنع الأسلوب)-كما يقول الناقد فاروق يوسف-. ومن صميم أعمال المعرض، تقف رسومات الفنان مع كتله اللّونية وتركيباته (العجائنية) على درجة واضحة من استقراء الواقع عبر تكوينات أخاذة، حيث الصياغات الشكلية المعبرة عن وحدة الموضوع وعن الإشكالية الفاعلة والمؤثرة داخل إطار كل لوحة، مع اختلاف طريقة رسمها، والملفت للنظر حضور الألوان الحارة والمضيئة بالدرجة الأساس، وقد شكلت نقطة إضاءة لافتة للانتباه، حيث اللّون الأحمر ودلالته المكونة واللّون الأصفر وانعكاساته المؤثرة.. لكن شهية الألوان تقف على حوار تضادي مع بعضها، أو بالأحرى هناك فعل (كونتراست) بين الألوان جميعها (الحارة والباردة)، ما عكس حقيقة الانتباه بشكل أكثر وضوحاً. ما يمز الفنان هذا، انه لائذ دائماً في مرسمه، يعشق المغامرة مع تجربته، شديد الحساسية مع الأشياء، لذا ارتضى لنفسه ان يكسر أطر التقليد، وان يفتح أسراره من خلال زحمة الألوان وقصدية (التهويمات) المدركة، وكأن كل ما يدور من أحاديث (تقيمية) لا تؤثر على ذائقته .. فهو يشتغل برؤاه المشحونة عن قناعات موضوعية كرست لحظة إمساكه بالموضوعة المراد تثبيتها داخل لوحته.. والشيء الأكثر ملاحظة، انه لا يعمل على حافة الأشياء، بل يدخل بأعماقها، مبرراً ذلك بأنها طريقته الخاصة التي يصنع فيها أشكالاً فنية/ تشكيلية جديدة. (ذاكرة النسيان)، عنوان لذيذ للمعرض الشخصي التاسع، وهو أيضاً ـ أي العنوان ـ يعد لعبة فنية، ينطلق منها صوب تحقيق شحناته المفارقة، كما يشير (الفولدر) الى ان المعرض أقيم عام (2010)، وهي لعبة ذكية لكسر إطار الزمن، وفي وقفة معه ونحن نتجول في المعرض، سألناه عن التأريخ هذا، كانت إجابته بـ(أني لا أحترم الالتزام بالزمن، ولا أريد ان أخضع لهيمنته). ككل، تعد تجربة الفنان (كامل حسين) في معرضه الأخير هذا، نقطة انطلاق جديدة في أعماله مع الاعتراف الواضح بأنها تحمل شاعرية داخل المضمون وفي دلالة الألوان أيضاً، وأرى بأنه يستعد لتجربة قادمة.. يفاجئ جمهوره المتابع بما هو مغاير للسابق. |