المقاله تحت باب محور النقد في
10/03/2009 06:00 AM GMT
هل يحق لي أن أعترف، بصفتي ناقدا فنيا متابعا لأحوال الرسم في العالم العربي، ان ذلك النوع الفني هو اليوم في حالة يرثى لها، بل هو في طريقه إلى الانقراض؟ كيف؟ ربما لأننا كنا دائما ننتظر منه أكثر مما يقوى على فعله الآن. ربما لأن الرسامين العرب عودونا على أن يقفوا في طليعة التغيير والتحول وصنع المعجزات المرحة، دعاة حياة مضادة تسللت بعصفها الجمالي إلى أعماق وجودنا وأغنت برؤاها خيالنا الذي افقرته عبودية القمع والكبت والخوف والترغيب وشراء الضمائر وسواها من اقنعة الحكم الشمولي وآليات عمله. ربما لأننا لم نعد نرى إلا فيما ندر في الرسام صورة الفاتح والفارس النبيل الذي يصطاد برمحه طائرا لا مرئيا ويفتح أمامنا أبواب جنات متخيلة. ربما لأننا نواجه خواء تعبيريا يحيط بأحوالنا في مختلف صنوف التعبير ومن ضمنها الرسم، يحدث هذا في الوقت الذي صارت فيه فجائعنا وهزائمنا وخيباتنا أكثر وضوحا من أن تخفى. لو تساءل المرء اليوم لا عن موقع الرسام العربي في الثقافة العالمية، بل عن موقع ذلك الرسام في الثقافة العربية لما عثر له على أي أثر يذكر. ماذا تعني تجارب قلة من الرسامين المخضرمين (أصغرهم ينتمي إلى العقد السبعيني من القرن العشرين) في خضم هذه الخريطة الثقافية المترامية الاطراف والتي يسودها الجهل بقيمة الرسم في الحياة؟ لا شيء، سوى خزانة الذكرى الصدئة. نتيجة كئيبة يخرج بها المرء لو أجرى احصاء لعدد الرسامين العرب الطليعيين الذين يمكن أن نذهب برسومهم إلى الصالات الفنية العالمية من غير أن تكون تلك المعارض مدعومة من قبل الدول التي ينتمي إليها الفنانون. المعارض التي يقيمها معهد العالم العربي في باريس في أوقات متباعدة هي نموذج صارخ لذلك الفشل الفاجع. لا لأنها معارض مدفوعة الثمن سلفا فحسب، بل وأيضا لأنها تخون واقع الرسم في البلدان التي تمثلها. بعد قرن من المحاولات الباسلة من أجل أن يحتل الرسم مكانا نقديا جاذبا وقويا ومحترما في البصيرة العربية نراه اليوم يتراجع إلى موقع الخادم الذي لا يرى في وجوده إلا نوعا من التماهي الحرفي مع تقنية تشير إلى نوع مقيد بصور مسبقة من الحياة. الرسام العربي اليوم يعيد انتاج صور تخيلها سادته، وهم أصحاب القاعات ومقتنو الأعمال الفنية.
2
(نحن نعيش في زمن الصورة) جملة صرنا نكررها دائما لكن هل نعيش نحن فعلا في ذلك الزمن؟ يمكنني أن أقول بقلق أننا نعيش في اشتباك مضن مع الصورة التي تخوننا. الصورة التي لا تقول محاولتنا بل تعيد انتاجنا، وتضعنا على سلم لا نقوى على ارتقائه. منذ منتصف القرن الماضي والرسام العربي يحاول أن يعقد صلحا بين هويته المحلية والمتغير العالمي في طريقة النظر إلى الرسم. كانت محاولات شقية، مولتها مواهب كبيرة بأعصابها وصبرها وشجاعتها وتمردها وشغفها بالتقدم. وكان هناك دائما مَنْ يمكن الاشارة إلى خصوصيته المتمردة والكريمة (جواد سليم وشاكر حسن آل سعيد وضياء العزاوي ورافع الناصري في العراق ومحمد المليحي وفريد بلكاهية ومحمد القاسمي في المغرب وفاتح المدرس والكيالي ومروان في سورية وبول غراغوسيان واسادور في لبنان على سبيل المثال). ولكن الزمن يمضي، والأسئلة تكثر والحياة تجلب مشكلات أشد تعقيدا من أن نتمكن من الإجابة عليها من خلال احالات إلى الماضي. كيف يمكننا أن نستثني الرسم من عقدة العودة إلى الماضي؟ لقد صنع رسامو القرن الماضي جمهورا يعتد بذائقته الجمالية، ولكن ذلك الجمهور صار هو الآخر جزءاً من الماضي. لنتخيل أثر لوحات اللبناني المتفرنس شفيق عبود وهي تعرض على جمهور اليوم؟ كل الاسئلة التي أجاب عليها فن عبود أو حاول استخراجها من المجهول باتت اليوم مستنفدة. الخطر الذي واجهه عبود ببسالة صار اليوم بداهة عيش. نحن حقا في زمن الصورة ولكنها الصورة التي لم نمتلك حتى الآن الدراية بأسرارها ومواقع مناجمها. وكما أرى فان كل محاولات رواد مغامرتنا الفنية لا تنفع في انقاذنا من صمتنا الأبله. رسامو اليوم من العرب يكتفون بالغنج الفضائحي المكتسب من تلك المغامرة وهو ما تبقى في عيونهم. مفردات لها صلة بالتراث الشكلي والحكائي العربي يسعون من خلالها إلى أن يكونوا موجودين في ذائقة لم تعد تمثل أحدا. ذلك لأن المتلقي هو الآخر مثلما الصورة ذهب إلى عبث لا يذكر بالماضي. وهو عبث الصورة التي ترى احدا في مواجهة مرآتها.
3
(نحن في المهب) كيف يمكننا أن نعبر عن تلك الحقيقة التي صارت العمود الفقري لما نعيشه سياسيا واقتصاديا وثقافيا ونفسيا؟ لقد قدر لمنطقتنا أن تكون ممرا إلى عولمة لا يرتاح لها بال إلا إذا عادت تلك المنطقة صحراء ناعمة. هناك موقف ذرائعي معولم من الشغب المستتر، من التسامح الديني، من التعايش الاثني، من الايمان بالتاريخ. وكما أرى فان وجهة النظر التي تقول بتكريس الفلكلور هي التي انتصرت في النهاية.
من وجهة نظر المستفيدين من ثروات المنطقة كانت (فلترة) شعوب المنطقة هي الحل الأمثل لكي تمر الرياح بدعة. ولأن اسئلة الحداثة كانت قد تمحورت في جزء عظيم منها حول الموروث الشعبي فلا بأس من استعادتها. (شيء يشبهك) ولم يكن احد من الرسامين العرب يفكر بذلك الشيء الذي يشبه شعوره أو حياته المخربة في هذه اللحظة من الزمن القاسي.
صار الرسامون العرب ينتجون ما يجعلهم حاضرين في الصورة التي تؤسس لها العولمة. وما عرفوا أن تلك الصورة هي في حقيقتها كيان ناسف لكل اختلاف، ولكن هل كان يهمهم ذلك؟ ليت التشابه يجدي. فهو علامة نكوص إلى ماض لم يعد يهتم به أحد. لقد بيعت أمامي لوحات (عربية) لا قيمة لها بمبالغ كبيرة لا لشيء إلا لأنها انطوت على نوع من التلصص على تقنيات صادقة انجزها رسامو الستينات والخمسينات العرب في القرن الماضي. تلك اللوحات لا تمثل شيئا في زمن الصورة، بل هي تنشئ هامشا لخسارة ذلك الزمن. وكما أرى الآن فان حنيننا إلى الرسم إنما يقع في المهب الذي لا أتخيل أن في إمكاننا أن ننجو منه. هناك من يقول: لقد مضى زمن الرسم. وهناك من لا يزال متمسكا بعقدته التقليدية: البحث عن حل خالص عن طريق الرسم. ولكن أي رسم؟ ذلك هو السؤال. ومع ذلك لا يزال في إمكاننا أن نحلم.
' شاعر وناقد من العراق يقيم في السويد
|