?اقنعــة النــص، فــن الانتبــاه المكــرس

المقاله تحت باب  محور النقد
في 
25/08/2009 06:00 AM
GMT



ينشغل التشكيلي قاسم سبتي، منذ فترة طويلة بتقوية تجربة فنية خاصة به، دون سواه ربما لم يسبقه اليها احد من الفنانين فالتجربة تبدأ بتوظيف اغلفة الكتب لصالح اللوحة فكيف يكون ذلك؟

*ان المغلف وبحسب تعريفي له: يمثل تاج النص لانه نمط لخلاصات او اختصار لخطاب وحين اطلق الفنان تسمية اقنعة النص على تجربته هذه انما يريد الاقتصاد بالقول بان ظاهر الشيء لا يشبه باطنه. فالظاهر هو مقتبس رمزي قد يشي بالمكنون الخفي ويفصح عنه بالايضاح والتلميح ولكنه ليس سوى قناع.

*اعرف بان الفكرة اومضت للفنان ورقدت في مخيلته عندما كانت الحرائق تفترس الكتب والمخطوطات والوثائق واللوحات وكل شيء متعلق بالثقافة او التاريخ الوطني، بعد 9/4/2003 ومن هنا فان غلاف الكتاب ينطوي على دوال وقصود كثيرة وللمتلقي حق القراءة والتأويل ولكننا هنا سنؤكد على القيم الستاتيكية وسننظر الى الجوانب الفنية الكامنة وهل ان هذه التجربة تدخل في باب حداثة الفن العراقي؟

 *اعتقد ان تاريخ الحداثات في العالم استطاع ان يؤسس لنفسه مملكة مترامية الاطراف متنوعة المجودات تنطلق منها الافكار الانسانية في مختلف الرؤى والاتجاهات ولكننا نقول ومهما امتدت افاق التجربة في الفن فان هذا العالم الواسع بانتظار جملة شعرية لم تقل مسبقا ومهما انفتح تاريخ الفن العام على الافكار والتقنيات وسبل الانجاز الفني، فانه بحاجة الى ابسط لمسة لم تتردد عن اصداء اخرى، وحتى لو كانت كمثل فارزة في جملة مفيدة.

*صحيح بان تاريخ الحداثات ومنذ هوس الدادائية وحتى اخر مدرسة تعبيرية قدمت للمتحف اغنى التجاوزات واخطر الانجازات رؤية وفهما وتنفيذا متحديا ولكن الفن التشكيلي في العراق ومنذفورة جواد سليم وفائق حسن وكاظم حيدر وغيرهم حاولوا الايلاج في الافكار الحداثية والخوض في معتركها التجديدي ولكن كل المحاولات ما هي الا مسايرات واتباع هدى التجارب الاخرى المقدمة سلفا، ولان الخطاب الفني وحدود التصور في فترة ما بعد العقد الرابع من القرن المنصرم لم تخرج عن اطر النظرة الى الموروث وتأكيد الاصالة واكتساب الهوية وسوى ذلك مما يؤكد على ان طريق الفن التشكيلي في العراق ومنذ مراحله المبكرة لم يستطع خلع معطف المعاصرة ولم يشهد ولادات صحيحة للحداثة الا في حدود تجارب صغيرة جدا، فالحداثة في احد معانيها هي رفض قاطع للتمسك بمفاهيم التأصيل وتدمير حقيقي للاسطورة وزحزحة للعادات والتقاليد ونسيان للجذور والانحدارات وانهيار للايديولوجيا والقناعات الراسخة فالتجربة التي اقدم عليها الفنان قاسم سبتي تعتمد على ممكنات  الاحالة البصرية من خلال مادة خام اسمها غلاف الكتاب وحتى وان تبدت هذه التجربة بانها صغيرة في حجمها ولكنها واسعة في افاقها لانها تمثل اضافة وعلاقة فارقة وتميزا، فالحداثة تقبل اي جديد ومهما كان شكله او حجمه او مادة انجازه فهل ان مثل هذه التجربة تمثل ضربا من المعروض؟

*ان كل تاريخ الحداثات في العالم ما تحقق الا نتيجة للالام والاعتصارات والمخاوف التي سببتها الحروب وسياسات العنت والظلم والاستبداد او انها تمثل صيغة رفض للمعطى العلمي في جوانبه التدميرية. الرهيبة  وبيد ان قاسما حين اختار مادة غلاف الكتاب انما ليعيد الى الاذهان قيمة الذاكرة الثقافية المرموز اليها بالكتاب وهذه الذاكرة وقعت بين سندان الظرف الحالي الشائك ومطرقة الجهل الاجتماعي المستشري مثل الوباء ولكن  ما الذي حدث للاخرين ممن سولت لهم اثامهم لكي يفتكوا ويدمروا نفائس المتحف العراقي ومركز الفنون والمكتبات الوطنية ومركز الدراسات والوثائق وغيرها؟

*ان هذا السؤال وغيره يجيب عليه قاسم سبتي بالفن الذي يخفي لغة رفض واستهجان ويعلن عن نظرة ثاقبة للمستقبل فعلى صعيد الفكرة فان البداهة المنطقية تسوغ الوعي الجدلي باهمية الفكر الانساني الحر بصرف النظر عن العناوين والصفات فالغلاف لا يمثل صيغة من صيغ الانحياز الفكري او العقادي بعينه لانه بهذه الحالة سيؤول الى النظرة المطلقة فاذا تسنى لاي انسان التفرج على مجاميع الكتب في المكتبات فانه سيلاقي زخما من المعرفيات في كل الاتجاهات واللغات وسيقف وجها لوجه مع الجنون والعقل مع الرداءات والفيض الثقافي هكذا تتلاقى المتباينات والمتقاطعات كل مع بعض كما يتلاقى الميتون في مقابرهم العامة.

انه سفر القصود ومحطة تستدعي التوقف والتأمل ولكن هل تكفي الافكار لخوض سبيل الفن؟

*ارى ان الفن مشيد على ثلاثة اسس لا رابع بينهم الاساس الاول معني بالمادة الخام والاساس الثاني معني بالشكل اما الثالث فهو الذي سيقدم الايحاء بالخلاصات وهو التعبير  الا ان قاسم سبتي كثف جهوده لينال قسطه من القيم الكامنة في المادة الخام، وبهذا يكون غلاف الكتاب هو الغاية والوسيلة معا.

فلما عرفنا عن المواد الداخلة في بناء اي عمل فني بانها وسائط ناقلة للافكار والتصورات والتخيل وان وظيفتها البنائية تلزم معرفة مسبقة بما تخبيء من اسرار وفي تاريخ الفن الحديث تم عرض المواد الخام بوصفها تعبيرات نهائية فالفنانون الدادائيون قدموا لتاريخ الفن مخلفات الحرب بكل ما تتضمن من تفاصيل متعلقة بالشكل والملمس والرائحة والطعم والصوت والمذاق مع الاخذ باهمية الانتقاء من نواحي تأثيره البصري والحسي والحدسي والموقف المسوغ بالرؤية الفنية والجمالية كما ان تخطيات بابلوبيكاسو افردت حالات مماثلة ولاسيما تلك المتعلقة باستخدام المواد الخام التي لا تصلح للفن وجعلها اعمالا فنية فالفنان يمتلك اسرارا في خطاباته المتعلقة باستثمار كل الممكنات التي تساعد على ضخ اكبر قدر من قيمة الفن على المواد الخام الفقيرة واسباغها بطابع جدي واحالتها الى مادة تصلح للفن وبهذا تتحقق قيمة الانتباه في الفن.

ان قاسم سبتي وجد نفسه بمواجهة حدث قهول كان صدمة حقيقية وذلك بعد احداث التاسع من نيسان عام 2003 فكل شيء آل الى التغاير وكل معنى اخذ ما ينافيه او يعاكسه فما العمل للتعبير عن السورات التي تفيض على النفس والشعور؟ وهل الرسم بسياقاته المعتادة المادة والشكل والتعبير سيفي بالغرض المنشود للوصول الى الحل المثالي لقد اضطربت موازين التأمل والاحساس والتفكر ولم تعد المفاتيح المدرسية في الفن ان تفتح مغاليق الاحساس بهول الاحداث وكما قال ابو نؤاس وداوني بالتي كانت هي الداء.

يبدو ان الفنان لم يرتض لنفسه مزاولة التعبير بطرائق  الرسم المعتادة الالوان المذيبات فرشاة الرسم وسطح اللوحة فهذا الضرب من الرسم ومهما يحمل من سمات تدل على المهارات والخبرات ولكنه لا يكفي ليكون مصدرا لهياج الروح والنفس فلا ينبغي التجديف والمراوحة الانتقالية بطرائق ميكانيكية ومحسوبة بل يجب اطفاء الحرائق بقوة النار. ان اقنعة النص اعلنت تخطيها لكل الاساليب الفنية السائدة واعلنت ان ثمة ولادة جديدة لرؤية حداثية لزمن الحرب في العراق وبهذا استحالت المادة الخام الى نسيج للتعبير عن كلية الفن واختصار لمفاصله الثابتة فاذا كانت افكار الفنان تزعم بان هذا الفن يمثل غاية ووسيلة معا فان هذه الافكار ترغب بانسنة الفن ذلك ان الانسان وبحكم حقيقة وجوده يمثل غاية ووسيلة كما ان لحظة القبض على غلاف الكتاب ومحاولة استدراجه واستنطاقه ومحاورته تجري اثناء افعال او انماط من التوليفات الدراماتيكية وبخاصة اذا كان الكتاب خارج من اتون نار لئيمة فالكتاب ذاكرة للمعرفة او الثقافة او العلم وحين تطاله السنة النيرات فان قصدية الايذاء مقترنه بانماط من الافعال وآليات من الحركات كما ان يد الفنان سوف لا تأخذ دور الطبيب او الرسم بل سيفرض على هذا الكتاب انماطا اخرى من الافعال وآليات العمل سيجرده عن محتواه بالكامل وسيهمل النصوص او الصور وحين يخلع عنه غلافه فانه كمن يخلع عن الميت كفنه انها قسوة فالكتاب يموت مرتين مرة اثر هياج الغوغاء ومرة على يد قاسم سبتي ولكنه في المرة الاخيرة سيتحول الى مادة ثمينة كما يتحول الفحم الاسود الى ماس ببريق اخاذ.
ان ناموس التكوين جبل الاشياء كل الاشياء بطرائق تقبل المغايرات والاحتمالات كما ان الاسد ولد عن النملة وان قطرة الماء انعشت المحيط فالدرس المهم جدا ليكون في مدى المقدرة على بث اكبر قدر من الفن على السطح وعلى نحو لا يؤثر باتباعية ولا يكون ترديدا لتجارب اخرى فالمغزى يكمن في الجدوى واللياقة والتهذيب وحسب الانتباه والانتقاء الامثل.

لقد اكدت تجربة اقنعة النص على الاختلافات فيما نعرفه ونراه فأكداس الكتب الجريحة المتعرية جعلته كالمجنون الذي يلعب بالنار فذاق النار وذاق الحرق وفي غابة الاغلفة المحترقة امتدت يديه لتنال كنز الاحزان فهل ثمة طريقة للبوح بلا رسم؟

*ان الفن في بعض الاحيان يمثل سلوة وعزاء وحالة رثائية فالفنان قاسم سبتي خرج برؤيته عن قواعد اللعبة واعلن عصيانه عنها واثار علاقة استفهام كبيرة فكل ما حولنا دمار، دمار واختصر المحنة وقال كلمته في المعنى والجدوى/ انه الفن حقا.