.
المقاله تحت باب محور النقد في
15/04/2007 06:00 AM GMT
علي الرغم من تشكلات الرسم بمرجعيات متعددة علي أرض الرافدين بدءاً من فسيسفاء أور إلي مدرسة بغداد للتصوير الإسلامي ممثلة برؤي الواسطي وما تلاها من تجارب، إلا أن خارطة التشكل النحتي تجد نصيباً أوفر من خلال العمق التاريخي والحضور داخل الوجود العقلي والتأثيري للحضارة العراقية القديمة بمختلف مراحلها في ضوء ما وصلنا من نماذج تمثل النحت البارز والمدور والأختام الأسطوانية وغيرها. وبهذا فإن النحت العراقي المعاصر علي الرغم من القطيعة الابستمولوجية منذ سقوط بغداد وحتي تأسيس الدولة العراقية الحديثة في عشرينيات القرن العشرين له من الجذور والامتداد التواصلي الكثير عبر الذاكرة الجمعية والثقافة النصية التي تعني الثقافة المدونة من نصوص قرآنية حيث أوردت في الكثير من آياتها كلمة المصورين التي تعني المثالين أو النحاتين، لأن النماذج التأريخية لم تؤشر محطات مماثلة في أجناسية الرسم، ولهذا فإن التصوير هو رسم الهيأة نحتياً، وعندما جاء الإسلام في مرحلته الأولي فإن الكراهية شملت هذا الجنس الفني بالتحديد.
من ملفات الواسطي في ضوء التراكم الفني في مجال النحت مهد فيما بعد إلي ظهور نوع من النحت الفطري بزعامة (حامد ماضي، منعم فرات) وآخرين نتيجة هذه التلازمية واستمكان البعد الفني وأحياءه في ذاتهم من خلال مشاهدة التحف الاثرية أو حياتهم المعاشية علي تلال أثرية تحيط بمدنهم مثل (لكش، تلو، الهبأ) وغيرها. لذلك فان النحت العراقي المعاصر وثب من خلال القراءات المعمقة للتأريخ الفني الرافديني، بما قدمه (جواد سليم) بوصفه رائداً لحداثة الفن العراقي وليس النحت فقط، فقد قلّب أوراق الفنان السومري والأكدي والآشوري وفتح ملفات الواسطي ليجد ضالته في هذه الصياغات المبدعة، ولكن الحافز الذي مهد له ذلك التوظيف والاستلهام هو الاطلاع علي المنجز الغربي أثناء دراسته هناك (وهذا ما انسحب علي التجربة الريادية في النحت العراقي)، إذ جعل من عملية التوسطية التي تعني المزاوجة وليس الوقوف بمنتصف الطرق أسلوباً فنياً يمكن التعبير به عن موضوعات إنسانية عامة وعراقية خاصة في محاولته توظيف الموروث الرمزي العراقي عبر معالجاته الفنية وأن الأنموذج الأبرز في توصلاته هو (نصب الحرية) ومرموزاته المعروفة التي استوحي من تفكيك هذا النصب ــ باعتقادي- موضوعاته في النحت المجسم اللاحقة أو تم تجميع النصب من خلال إدماجها، مثل السجين السياسي، أو استحضار الأنوثة في منحوتة الأمومة وغيرها.
استلهام الهيئة السومرية وبخلاف تجربة جواد سليم الحداثية (بالمعني المقصود للحداثة) من حيث الموضوع وتقنيات الاشتغال والبني المجاورة التي تحقق، فإن تجربة النحات صالح القرة غولي ولذات الأسباب الموضوعية والذاتية التي قادته أنتج خطابه ما بعد الحداثي، حيث درس في باريس وتأثر بالموجة النحتية الجديدة أو نقلة الحداثة الثانية في ضوء استخدام وتوظيف المهمل واليومي والمعاش في الفن، بما يدين أخلاقيات المجتمع الرأسمالي الاستهلاكي، إلا أنه حاول أن يقدم جوهر التجربة علي مفردات عراقية خالصة بما يعكسه توظيف (شبكة الصيد، القارب، القير، الفالة) والرموز الإنسانية النحيفة والطويلة تيمناً بالهيئة السومرية بحسب ما ورد في الملاحم العراقية القديمة وبهذا أصبح شيخاً له طريقته الخاصة لم يقدم أي من النحاتين علي التقرب والولوج إلي مشروعه كون التجربة الثانية محكومة بالفشل عند محاولاتها الأولي لوقوعها في شرك التقليد والمماثلة. وبقيت المحاولات الأخري تدور في فلك الحداثة تارة وأخري تحاول التقرب إلي الكلاسيكية فن الأنموذج بوصفها طريقة وأسلوباً لتمثل الموضوعات الواقعية التي تلامس الحياة المعاشة، ولم يحاول بعض النحاتين الخروج من تأثيرات جواد سليم ونجاحه فبدأوا بتقليد مشروعه مثلما حصل للفنان خالد الرحال في نصب المسيرة في كرخ بغداد ليكون مماثلاً انصب رصافتها (نصب الحرية) سالف الذكر. لكن هذا بالتأكيد لا يلغي محاولة الكثير من النحاتين في البحث علي خصوصية الخطاب كما في تجارب (ميران السعدي، إتحاد كريم، إسماعيل فتاح الترك، صالح الجميعي، محمد غني حكمت، نداء كاظم، ليث الترك، منذر علي، هادي عباس). إذ تعد من أهم الخطابات النحتية البصرية، وهنا تجدر الإشارة إلي تأثيرات المناخ الدراسي الأوربي علي جميع هؤلاء وكان حافزاً وسمة أساسية في اجتراح الأسلوب والمخاض الذي تتولد عنه أعمالهم سواء كانت تعبيرية أم رمزية وصولاً للخطاب المجرد الذي أغرقه فيما بعد جيل الشباب الذي حاول أن يجد مناخاته الخاصة طبقاً لظروف محيطة يعرفها الجميع تمثل في عدم تقديم خطاب مباشر، وهذا المجرد أبعدهم بعض الشيء عن تجارب الأساتذة والأسلاف من حيث التقنيات أو الموضوعات المعبّر عنها، وقد تقف في طليعة هذا الجيل تجارب (طه وهيب، رضا فرحان، سماري، نجم القيسي، ناصر السامرائي، أحمد الصافي، علوان العلوان) ورهط كبير من المجربين في هذا الحقل. من هنا نجد أن الساحة العراقية ولودة يمكن أن تعطي الكثير، إلا أن المناخات والظروف المحيطة والتي أحاطت بالرعيل الأول تحديداً من حيث الاتصال بالآخر ومعرفة طرائق تفكيره، فضلاً عن ظروف داخلية سواء كانت موضوعية مثل تحديث بني الدولة العراقية من اقتصاد وسياسة واجتماع وغيرها من عوامل مرتبطة بطبيعة استقرار الفرد بما يؤثر علي إنتاجه الداخلي إلي عوامل ذاتية ترتبط بحركة الفرد داخل السياق الشخصي والجماعي وفاعليته ومرتكزاته الثقافية مع خلو فضاء الفنان السابق من محاولات تأصيل بعد القطيعة السابقة جعلت ممكناته واكتشافاته ذات أثر كبير في إعادة تقييم وهيكلة المشهد الثقافي العراقي من جديد، وهذا لا ينطبق علي النحت وحده، بل في تجارب مبدعة أخري مثل الرسم والشعر والقصة والرواية والمسرح والإبداع بكافة أجناسه، ولكن بعد الردات الكبيرة وشيء من الانحطاط الحضاري علي الصعيد العالمي والعربي علي وجه الخصوص وصولاً إلي التجربة العراقية السابقة جعلت الأزمات والخيبات تأخذ حيزها الواسع علي مسيرة الإبداع الفني وتعطيله من حيث الكيفية التي يتجلي بها وأن تواصل في محصلته الكمية وظهوره إلي العيان، إلا أننا لا نستطيع أن نؤشر تجارب واضحة المعالم توازي تجارب سليم والقره غولي والترك والرحال.
|