عتبة ....
لم يسبق لي ان تعرفت على تجربة الفنان العراقي بلاسم محمد ..فقد قادتني الصدفة الى اسمه من خلال بحثي في النقد الفني ..فوقعت على سلسلة بحوثه النظرية التي اثارت اعجابي بالمنهج المنظم والمعاريف التحليلية ...هي المرة الاولى التي استدل فيها على بحوث في اللغة العربية بهذا المستوى من التنظيم المنهجي وقوة الملاحظة وعمقها ...ثقافة هذا الباحث البصرية تشكل في نظري نقطة توقف في النقد .. اردت فقط الالتفات اليها ..عسى ان نتجه نحن العرب ونقاده الى مسارات اكثر وعيا من ما كتبنا ونكتب عن التشكيل من انطباعات عامة ...
ثم عرفت فيما بعد بان الفنان بلاسم محمد تشكيلي .. وقاربت اعماله ...
اقف في الجانب الايكونوغرافي والذي يقود الى ثقافة العين ، لاشير ان وعيه بالثقافة البصرية هو الذي مده بصفة النباهة في اختياراته الشكلية وطريقة عرضه للوحة ...
توصيف:
يقف تاريخ الفن العربي على اتهام قار بأنه فن استنساخي ، ليس بامكانه بناء بدايات للانعتاق من اسر تاريخه الغربي ..هاته نظرة ، وجدت مناخا للنمو والتعمد بصياغات واساليب لم تعد تعطي لنا شيئا اكثر مما استدلنا عليه الفن الوافد...وكانت محاولات الانفلات والبحث في مفاصل الاسلوب لاتعدو غير تصنيفات في العلامات المحلية او العودة بالصورة الى حكائيتها ...ولم يكن الفن العربي في المغرب والمشرق غنيا باشكاله وتنويعاته ..الا في السعي لبناء خصائص ليست جوهرية ...وبالعودة الى الادبيات التي رافقت معارض الفن التشكيلي على مستوى التعريف او التحليل والنقد والمتابعة للفن واساليبه -وهي لاترقى بالطبع الى مستوى القراءة العميقة – لكنها تمدنا بارتسامات واضحة بان الفنانين العرب غير قادرين الى الان بتعرية حقيقية لجسد الفن ومفاصله العميقة .. هاته حكم قاس ..لكنه حقيقة البنية العميقة التي تشكلت
ومازالت ..وفي تراكم ادبيات وبيبلوغرافيا المعارض التشكيلية اصبح من الضرورات العمل على فحص كل مفصل مغاير يساعد المهتمين بالثقافة البصرية ويمكنهم من تتبع الانتاج التصويري والحامل المسندي الاكثر ممارسة وتداول فيفي بلداننا من باقي وسائل التعبير في بلدان المركز في الشمال ...
لهذا كانت كفاءة البعض من الفنانين العرب تدفعهم في منطقة الحيرة بين نزوعهم الشخصي الموهوب وبين سلطة نصوص التحديث والتلقي والتداول العام ..احتل النزوع الاول مكانة منزوية وخجلة وما كان له الا ان يموت بعد فترة غير طويلة ..فالتجارب المغايرة –وهي قليلة – لم يدون لها سجل يعمم على مستوى العالمية ..وان اة مراجعة لتاريخنا الفني تؤشر لذلك.
التجربة العراقية:
في التجربة العراقية وانا متابع لسيرها .. تجربة متقدمة عربيا ..لانقع على اختراقات مهمة الا في التواصل البحثي ..بتأثير حركية الحياة العراقية ذاتها ..ومنذ جواد سليم في بحثه المجتهد ثم كاظم حيدر لم يحدث شيء على تفعيل اختراقات مهمة ..ثم دخلت في السياق القشري العربي ذاته ..تجربة شاكر ال سعيد ورافع الناصري وضياء العزاوي حروفية لاتتستطيع بناء تشكيلي منفتح ..وتكرر ذاتها رغم امكانات الجماعة التقنية ومواهبها ..اتجاهات اخرى واقعية لم تعي الا محيطها ..ثم فولوكلورية حكائية تعتمد سيموطيقيا الحكاية ..
تجربة الفنان العراقي بلاسم محمد ربما تؤشر الى منهج اخر يعتمد على الذاتي في الجانب التقني ويتكيء على بحث مغاير ...وهذا مادعاني للكتابة عنها والتاشير بانها وصلتنا هي ..فذهبنا اليه ...ارى انها تجاوز المحاكاتية البسيطة والسائد في السوق الضيقة ...وشرك التكرار تجربة جديدة غير مألوفة في استعمالات الخط وانكساراته المفاجأة والاشكال التي لاتشابه شيئا ...حتى الرسم نفسه ..
كتب الناقد العراقي فاروق سلوم : (منذ وقت وهو يرسم - يريق بنظام تدويني مشفّر يومياته التشكيلية علي خامات متنوعه ..وبهذه الطريقة المتعددة الوجوه يضعني بلاسم محمد امام خيارين : الخروج من الكتابة..او الأعلان انه، مع كل عمل تشكيلي، يقرر الخروج من الرسم)..قولة تختصر مسافات هاته فهم لاعماله ...
في معرضه الاخير بعمان ( العبق المهجور ) ( كاليري foresight ) لانستطيع تجنب المكانة التي يحتلها هذا الفنان ..ومن المجازفة حصراعماله في قالب معين .. ترفض التبعية وتسعى لحماية حريتها ...عاطفية لكنها مستفزة ،اما العنوان الذي اختاره فاجده يحاول القبض على المنفلت ( الرائحة ) وهي ادبية تبعث الانطباع على ان الفنان غائبا ومحايدا وقليل الاهتمام بما يجري هنا وهناك .
ان فنه يتطور في الهامش ..انسحاب تام من السوق بكيفية منفردة ..يلتفت الى نفسه اكثر مما يلتفت الى العالم الخارجي باتجاهات غير متوقعة ..اليس هاته زحزحة للمعايير القائمة؟
يبدو ان هذا الفنان لاهم له وشغفه الوحيد انتاج تشكيل كما يفهمه هو .. بحث خالص عن علامات واشكال ومواد ..فوضعنا في تجربة تخترق توقعاتنا دون ان يطلب منا تفكيك رسائله بل توريطنا في بنيه غائبة لاحدود لها ...ان الامر يتعلق باشكال سهلة الا انها لاتستسلم الى غلقها.