لا يحضر الجسد، في أعمال معرض التشكيلية العراقية بتول الفكيكي، إلاّ موشوماً بعذابات الروح وتغضناتها، التي ما أن تنتظم على سطحه، حتى تتدفق معها على نحوٍ تراجيدي أسئلة البحث عن معنى الحرية والاغتراب، وعن جوهر الشرط الإنسان في الحياة.
ولا يمثل الجسد في معرض الفكيكي، المقيمة في بريطانيا منذ 15 عاما، والذي افتتح مساء أول من أمس في مركز رؤى للفنون وحمل عنوان "الجسد الموشوم"، مكاناً للمعاينة البصرية فقط، بل يتجاوز ذلك ليصبح مكانا خاضعا للمسح والمراقبة والتمشيط، كاشفاً عن المجال الحيوي لوجود الإنسان على هذه المسافة أو تلك التي تربطه مع نفسه ومع محيطه.
وتستنطق الفنانة عبر 44 لوحة منفذة بألوان الأكريليك والزيت، المحمولات الدلالية في "النسغ العشتاري"، مدفوعة باستدعاء ملامح الجسد المتفلّت من التعيّن والتأطير، لتعيد انتاج طاقته التعبيرية عبر تقصيها للمكامن السريّة في منعرجات الخط وتواريات اللون.
ورغم غياب الملامح التشخيصية للجسد الإنساني في أعمال الفنانة، بخاصة غياب الوجه والرأس وأحياناً إقصاؤه التام، إلا أننا نستطيع أن نستدل على تلك الملامح ونتعرف عليها من خلال تتبع علامات الوشم التي تملأ الفجوات وهي تدمغ الجسد برموزها وعلاماتها ووظائفها التعبيرية، وتعمل على ربط الإحالات بين ما هو معطى بصرياً وما هو متخيّل ذهنياً.
وتسجل الرموز والعلامات والإشارات البصرية المتأصلة في الجسد وعلى سطحه في مجمل أعمال الفنانة التي تعد من ألمع الوجوه الفنية العراقية منذ السبعينيات والثمانينيات، ارتساماتها على شكل انقطاعات متوازية في فضاء الجسد وتداعياته، كأن تسجل فيه وعليه قوى الكبت والعقاب بصفته مكاناً يخضع للمسح والتمشيط، لتصبح التآكلات والتغضنات والاحتقانات علامات واشمة للجسد، وكأنه حسب ميشيل فوكو "الواقع الوحيد للقوة الذي تنتظم منه وفيه المقاومة لتحرير الرغبة".
وتتحقق القيم الجمالية في أعمال الفنانة من نمو الأشكال بتساوق تام مع مضامينها، وهذا ما يدعو متلقي أعمالها إلى الانجذاب نحوها والتعاطف معها بفعل تلقائيتها المنبعثة من الانفعال التعبيري الذي يكثفه اختزال الملامح التشخيصيّة عبر اللون بالدرجة الأولى.
وتكتسب حركة الألوان في أعمال الفكيكي، عبر ترددها وتقاطعها، وعبر انحنائها وامتدادها وتموجاتها، طاقة حركيّة تتجاوز باستمرار مجالها التعبيري، لكي تعيد تأسيسه من جديد. فالمستويات اللونية لديها، وعبر مساراته الحركية التي تتشكل من خلال ارتساماتها على هذا النحو أو ذاك، تولّد مسارات جديدة تكتسب العمل من صيرورة التعبير التي تتحقق وفق مقتضيات الحس الداخلي للفنان.
وتعمل الملامح الغائمة للأجساد والمرئيات المختلفة، والتي أشبه ما تكون بخيالات منتشرة على سطح لوحتها، على خلق تجاوب ايقاعي وتحليلي مع المتلقي، من دون حاجة إلى تفكيك تلك الملامح وإعادة تركيبها، وذلك بفعل المستويات الحركيّة للألوان التي تنفحها الحياة وتجعلها تمور بالحيوية والحركة الداخليّة المباغتة.
وتقول الفكيكي في تقديما لمعرضها "اللاوعي يدفعني الى اختيار الجسد كونه بيتا للسعادة والألم... المكان يهيمن على جزء كبير من ذاتي لا يمكنني التخلي عن جغرافية المكان والبشر والميثولوجيا.... الرموز... كلها هي خزين الذاكرة عن المكان. أغلب أعمالي تعتمد على الشكل وتأثيره على أعمالي كبير أن الشكل هو الجسد والمضمون هو الروح.. ما قيمة الجسد بلا روح وأين الروح حين يختفي الجسد؟ ألجأ الى الرسم لنفض الآلام.. وهكذا مع لحظات الفرح حين تدفعني لأدون اللحظة وحفظ قوة تأثيرها. لجأت إلى عشتار واستنطقت حالاتها تجليها عذاباتها عسفها أوجاعها فرحها حزنها همومها".
وتزيد "أوجاع عري الروح والجسد وسطوة الآخر جسد يقاوم الموت والفناء في لوحات معرضي الجديد الذي اشتغلت عليه في سنوات مأزومة واغتراب روحي مرير".
وكتب الشاعر والجامعي التونسي د. نزار شقرون عن أعمال الفكيكي "يغيب الوجه والرّأس، لا يبقى غير الجسد، بل إنّه يكاد يغيب ليحضر الأثر: الوشم والنّقوش. ها هو الجسد يتحوّل إلى ما يشبه الأشلاء. يتحوّل الجسد في اللّوحة العربيّة إلى صراخ، فليست لوحة فرانسيس بيكون وحدها قادرة على استنطاق الألم الإنساني، وإذا كان بيكون يواجه رعب الواقع الإنساني برعب تمثيل الوجه والأجساد وكأنّها قطع لحم مقطّعة".
ويزيد "إنّ حساسيّة بتول الفكيكي الفنّيّة جعلت من رعب الجسد أكثر نعومة؟ فِعْلاً، من غرابة تمثيل الجسد أن يكون موشوما بالجراح والمآسي وفي الوقت نفسه ناعما بشفافيّة الألوان، أليس وشم الجسد العربي اليوم من قبل قوى الاستعمار الجديد يتمّ بطريقة ناعمة، ألا يذبّح الفلسطينيّون أمام كاميرات عصر الشّاشة الأميركي ونرى الأشلاء تعرض في شاشات التّلفزيون ونحن بصدد تناول وجبات الطّعام؟ أليس هناك ما هو أنعم من هذه الميتات وألطف من هذا التّلقّي؟ ألسنا نتابع يوميّا أحداث التّفجيرات في أرجاء العراق ونرى الدّم وهو في أقصى نعومته يمسح بلزوجته الطّرقات، ونحن بالطّبع نواصل الأكل؟ ماذا عن لوحة بتول التي تختزل كلّ نعومة القتلة، وتردي القتيل/ الجسد العربي طريّا إلى حدود عشق القاتل لضحيّته؟". |