في محاولتي لوصف أحوال فن الرسم في الوطن العربي الآن، سيكون علي أن أتحاشى بصعوبة استعمال المفردات التي من شأنها ان تضر بالذوق العام أو تحدث سوء فهم أو تحط من شأن القيمة التاريخية لفن سبق له وان ساهم في اطلاق جزء من موهبتنا في التعبير عن وجودنا الإنساني.
غير أن ما يعيشه الرسم العربي من تدهور ( وهو جزء من الوضع السلبي الذي تعيشه الانواع الفنية والادبية كلها كالشعر والموسيقى والنحت والعمارة) يدفع بالمرء إلى التفكير عميقا بما آلت إليه سبل التعبير من موقف تعبيري وبصري رث ومتدن ومبتذل من العالم ومن نفسها في الوقت نفسه. في أحس أحوالها تبدو عروض الرسامين العرب (المكرسين منهم طبعا) اليوم كما لو أنها تجارب مستعادة. ما من شيء جديد.
الأسوأ يكمن في ان تلك التجارب بسبب قدمها فقدت الكثير من قوة المحتوى وفتنة الطرح، بسبب انفصالها عن زمنها وانفصال الناس عن حقائق ذلك الزمن الجمالية والتعبيرية. لهذا لا أجازف حين أقول ان المرء كلما ذهب إلى افتتاح معرض جديد خُيل إليه انه يمشي في اروقة متحف. ألا يُشكل شعور من هذا النوع مصدرا لقلق كبير من جهة اشارته المباشرة إلى تعطل أدوات قياس الصلة بالزمن لدى الرسامين؟ وكما أرى من خلال متابعتي المتحمسة فان هذا الوضع ليس جديدا، بل انه يعود إلى أكثر من عشرين سنة. هذا يعني أنه منذ عشرين سنة أو أكثر والرسم العربي يمشي بنا في نفق، لم نخرج منه حتى اللحظة.
سيقال ان الرسم في العالم كله يمر في أزمة. هذا صحيح. أزمة الرسم في العالم نتجت عن تخمة جمالية لا سابق لها. باستثناء الاهتمام بتجارب رسامين قلة، يمكن عدهم على اصابع اليد الواحدة ( سي تومبلي، انسليم كيفر، جورج بازالتيس، كركبي منهم) فان أحدا لم يعد يهتم بما يعرضه الرسامون. سأكون واضحا أكثر فأقول ان فضاءات عروض الرسم ضاقت هي الأخرى فلم تعد تُقبل على عرض الرسوم سوى القاعات الثانوية أو التجارية أو قاعات الخدمة العامة كالمكتبات في البلدات الصغيرة. هل هذا يشكل اشارة واضحة إلى ضعف اهتمام الناس بالرسم؟ في الحقيقة لا يمكنني الحكم جازما، غير أنه من المؤكد ان المؤسسات الراعية للفنون كفت عن الاهتمام بالرسم وعن تمويل عروضه. ولكن هذا الوضع الملتبس لا يعيشه فن الرسم في الوطن العربي. فالرسام العربي لا يعاني من مشكلات في العرض، بل العكس حدث تماما، حين صارت قاعات العرض تنتشر في مختلف انحاء الوطن العربي كنبات الفطر. صحيح ان هناك قاعات دخلت في مناقصات تتعلق بعروض الفنون الجديدة واستطاعت أن تحصل على تمويل أجنبي من أجل القيام بمهمات خاصة غير أن تلك القاعات لا تزال قليلة بالمقارنة مع قاعات لا تزال تعرض الرسم مثلما عرفناه من قبل. إذاً الرسام العربي لا يعاني من نبذ أو إقصاء أو عزل. هناك من يعرض له وهناك من لا يزال يقتني أعماله وهناك من لا يزال يدبج المقالات في مديحه. لمَ إذاً لم يتطور فن الرسم لدينا؟ ولمَ تأخر موقع الرسام في حركة المجتمع، بحيث صرنا نلتفت إلى الوراء حين نرغب في استحضار الرسوم للترفيه عن النفس أو من أجل تزيين فضاء العيش من حولنا؟ كانت تلك نهاية حزينة لقرن من الإبداع كان الرسامون هم سادته.
كان الرسامون العرب يدهشوننا بكشوفاتهم الجمالية. وكانت العين لا تمل من استلهام المشاهد الواقعية والتجريدية التي يبتكرها أولئك الرسامون. كنا سعداء بما يجلبه الرسامون لنا من لقى بصرية. وفجأة وفي لحظة غامضة حصل الانفصال بين ما نراه في الرسوم وبين ما نعيشه في الواقع، وإن كان جزء عظيم من ذلك الواقع افتراضيا. يمكننا دائما الحديث عن الوهم، حين يكون الرسم هدفنا وهو نوع من الوهم ليس إلا. لقد تقاعس الرسم وخمدت حيويته فصار لا يرينا إلا عالما مستعادا، عالما خلفناه وراءنا. وكما يبدو لي فان ذلك الرسام المتمرد قد تماهى مع رغبة المجتمع في تدجينه فغطس في مستنقعه الأسلوبي. هناك حيث صارت جمالياته متاحة ومكشوفة للجميع، صار الرسم حيلة للاتصال وليس اعلانا عن القطيعة. ' رسم حلو' يُقال فيُسرّ الرسام. لقد استبيحت تقنيات الجمال القديمة وصارت عرضة للاستهلاك اليومي. صار رسامو التجريد أكثر حضورا من الرسامين الواقعيين في مزاد الذائقة الشعبية التي جعل الاثرياء العرب الجدد منها مقياسا للحكم النقدي. وهكذا انحطت التجارب التجريدية الكبرى إلى مستوى ذائقة صارت بمثابة ماكنة لانتاج الاحكام النقدية المبتسرة على مختلف أنواع النتاج الفني. هل كان حضور الرسامين العرب طوال العشرين سنة الماضية لافتا؟ لا أعتقد ذلك.
كان الاهتمام بالرسامين محصورا بفئات بعينها. فئات قُدر لها أن تهتم بالفن بسبب تمكنه منها روحيا أو ارتباطها به مدرسيا. ولكن الرسم بصفته طقسا روحيا كان قد انسحب من مواقعه التبشيرية القديمة. لم يعد الرسم ينبىء بما يمكن أن لا نفهمه، أن نبحث عن تفسير لوقوعه، أن يخلخل علاقتنا بالواقع. صارت الرسوم التي نراها تمثل عالما سبق لنا وأن جربنا المرور في دروبه. صارت جماليات الرسم تنبعث من خزانة التقنية. الفرق بين رسام جيد وآخر رديء يكمن في تمكن الأول من التقنية التي لا يجيد الآخر التحكم بها. هنا الفرق يكمن في الدرجة لا في النوع. كما في الساحات التي يعمل فيها رسامو البورتريه. لقد خان الرسام العربي ارادته حين تحول إلى تقني، يهمه أن يكون وفيا إلى الوصفات التي ارتاح إليها الجمهور. وهكذا انحط الفن إلى درجة التسول. ينظر رسامو الساحات العامة إلى السائحين بعيون متسولة فيما كانت تقنيات الرسام العربي تعيد المشاهد إلى لحظات عاطفته القديمة الفالتة. هناك خيانة مزدوجة: خيانة الرسم باعتباره معيارا لجمال لم يحن موعده وخيانة للمتلقي الذي يحضر مترددا ليجد نفسه وقد صار سيدا في لحظة غير متوقعة. لقد صار علينا أن نبحث عن الانصاف في هذه المعادلة القاتلة. وكما أرى نقديا فان الرسم العربي قد تأخر كثيرا في استلهام لحظة حضوره الراهنة. كان ومنذ عشرين سنة لا يمثل إلا لحظة حضور مثالي تجاوزها الزمن. صدقوني: معظم الرسوم التي انتجت خلال العشرين سنة الماضية لم تضف إلى الرسم العربي شيئا يذكر. كانت رسوما بلا طعم ولا لون ولا رائحة. مجرد رسوم للاستهلاك التجاري، انعشت السوق بما جلبته إليه من أموال ولكنها لم تقل اي شيء جديد. مساحيق وأقنعة وما من رؤى أو أفكار.
الرسم العربي انتهى. إلا إذا كانت هناك قيامة له في مكان مجهول.
|