عندما لم تتمكن منظومة مفاهيم وآليات وبالتالي ممارسات النقد والأدب العربي من التخلص من التبعات النظرية للبنيوية والبنيوية التركيبية - تحديداً- ربما بسبب تضخم مهمة الادب العربي؛ الذي قُدر له أن يحل محل معظم الاجناس الثقافية العربية في مهمة التعبير عن الذات العربية، التي تعاني اصلاً من إجتزاءات وجدانية وأزمات وجودية حقيقة، ذلك التضخم في طبيعة الوظيفة والاعتبارية تسبب في خلق إمكانية زائفة للأدب العربي المعاصر للتعايش غير المحمود مع العزل الثقافي الذي يحياه المبدع العربي، وربما ذات السبب يبرر من جهةٍ اخرى تغاضي الخطاب النقدي لدينا عن المحلية الداكنة التي غلفت النتاج الابداعي العربي؛ ذلك الانزواء والعزال وربما الانكفاء وُجد ليسبب أما انحراف بعض الاجناس الثقافية الى مناطق التزويق والزُخرف المجاني كما في الغناء، والموسيقى، والرقص، والعمارة؛ أو ما نشهده من استغناء الاجناس الثقافية الاخرى أعني- الشعر والسينما والتشكيل العربي- عن المهام القومية العريضة غير الممكنة وانبثاقها في خضم تحديات جمالية وتقنية أشد دقة واكثر ذاتية وبالتالي أكثراً قرباً من الانفتاح والتزود بالمعارف المجدية من حيث التأثيراً في الجوهر الابداعي؛ مما ادى لتضمينها قدرة عضوية اصيلة على ملاحقة موجات الانتباه العالمي للجمال وفق تقلب مقولاته الشكلية والبنائية.
فالشعر والتشكيل والسينما - وأحياناً - المسرح هي الاجناس الثقافية العربية التي وصلت وبامتياز لضفاف مابعد الحداثة لتواكب مد ما يدعى اليوم (بالانتليجينسيا العالمية) متمنطقة بثلاث خصائص نوعية مكتسبة؛ هي القدرة على التجريب المستمر، والقابلية على تلقي هجوم النقد الكلاسيكي المشكك حيناً والرافض احياناً، والكثير من الانفتاح التقني الشجاع والمندفع برغبة المواكبة وكسر الجمود.
ولنصل سريعاً لمفهوم (مابعد الحداثة) الذي يُلقي بمقولات مُتشابكة لا يكترث التشكيل عادةً الا بخلاصاتها التي تبحث في الفصل والتحديد بين الاجناس الابداعية، وهي بالأساس تتنتمي لذلك القسم المفاهيمي (Conceptual section) من مقولات ما بعد الحداثة الذي يتصل بقلق مع الحداثة ويناور ليتخلى وينقلب حيناً وليجاري ويطور أحياناً؛ مستفيداً من الفتوحات الثقافية التي اسست لها الحداثة.
أقول أن الحروفيات (Calligraphysim) في التشكيل العربي هي بالأساس ناتج فهم تشكيلي للحداثة، وقد كانت من أجمل استجابات الثقافة العربية لمبدأ اسقاط الحواجز القيَّمية والأدائية وبالتالي الفكرية بين الأجناس الابداعية، وهنا تأتي مابعد الحداثة لترمي الى خلق المناطق الوسطية بين المعارف الكونية الخلاقة؛ مما يعني الاستمرار والتقدم باتجاه هدم الحواجز لا بين الأجناس الثقافية فحسب، بل حتى بين العلوم والفنون والأساطير والسلوكيات اليومية، ولا من حيث تبادل المفاهيم وتسريب القيم من احدها للآخر فقط، بل حتى من حيث تبادل التقنيات وتداخل طرائق التنفيذ والانتاج؛ وهنا يمكننا النظر الى (التصميم Design) كأحد أهم نواتج الاخذ بمنطلقات مابعد الحداثة كصنف معرفي يزاوج ويداخل بين الفن والعلم وأفكار المسوُقين، ولايقيم فرقاً نظريا ولا تطبيقياً بين المنطق الجمالي والانتاج الكمي الصناعي للتوصلات التصميمية.
عندما تصفحت عل مهل وروية حركة التشكيل العُماني استوقفتني عدد من الثوابت التي تكونت من خلالها الهوية الفكرية وربما التوجه المعرفي للتشكيل العُماني -إن صح التعبير- وكان (التجريب) من أكثر تلك الثوابت تكراراً وأشدها وضوحاً في متن الحياة التشكيلية العُمانية وحمى الكشف عن التقنيات والأساليب وهذا ما أسهم - ربما- في جعلها حركة تشكيلية تتصف بالحماس والحدة والابتعاد عن الوسطية المتعارف عليها في معظم الحركات التشكيلية العربية، حيث لا توريث هنا في الاساليب ولا تناقل لأسرار الصنعة التشكيلية، ولا تقاليد تبني بين الاجيال؛ مما يجعل الدخول لمنطقة التشكيل محفوفاً بالصعوبات والتحديات التي تحتم تمسك الفنان بالبحث العلمي - التقني من جهة لحلحلة ازمة اخراج العمل التشكيلي على مستوى الصنعة ولتوفير اقصى متطلبات الابتكار الذي بات هاجساً للفنان في جميع انحاء العالم، وبالبحث الجمالي - الفني من جهة اخرى ذلك البحث الذي يؤسس لنهضة جمالية استثنائية تنطلق من داخل استوديوهات الفنانات والفنانين العُمانيين لتصل بهدوء وثبات الى معظم البينالات العربية والعالمية.
وفي قراءة تحليلية أكثر دقة لأحد التجارب التشكيلية التي إستوقفتني وهي تجربة الفنان (صالح الشكيري) أجد أن مقياس التحولات الأسلوبية التأريخية للفن لا يصح دون التمحيص في التجارب التي لها خصوصية الانفلات مما سبق واختبار المناطق البكر المواتي منها وغير المواتي؛ وعلى ذات النسق التحليلي العام نجد أن تجربة (الشكيري) تحاول ضبط مجساتها التجريبة على بوصلة مابعد الحداثة حيث التشكيل عندما يتخلى عن طبيعته السردية المباشرة، وهنا نتذكر بجلاء الحقيقة الفنية التي تقول أن الفن على عكس العلوم يدرك ويحس ولا يفهم ويعلل، وهذا ما يدعونا للتخلي عن ممارسة الفرجة والمشاهدة للوحة لنجاري اداءات من شأنها أن تحيل التلقي الى فعل لقراءة معالم العمل التشكيلي كنص يمكن تلقيه وهو يحكي قصة الانسان والهوية والانسان والمعتقد والانسان والوجدان وهذا هو الاهم والاجدر عادةً بالقراءة.
في حروفيات (الشكيري) مناورة معتادة لعكس الحقيقة التاريخية لوظيفة الحرف العربي وهو ما أشبههُ باعادة أمر التكوين الحرفي الى نصابهِ، حيث أُنيطت به وظيفة رمزية ادت عبر الزمن لازاحته الى مناطق الفهم والتلقي اللغوي مع أنه ينتمي بجدية الى ما أدعوه بالجماليات البصرية العربية، فالحروفيةُ منهجٌ لتخليص الحرف من دلالاته الصوتية وإعادة استثماره ضمن حزمة التشكيلات البصرية الخالصة.
وبقدر ما تنحاز أعمال (الشكيري) بالحرف العربي الى المناطق البصرية البحتة نجد انها من حيث المضامين تسعى بدأب لزعزعة المعنى الجامد والمتعارف لحساب صياغة المعنى البصري المجرد ذي التأويلات الواسعة والمتلاحقة عبر المكان والزمان، حيث يرتبط الفن بالمغزى الجمالي الذي يسعى لتقليب وتغيير المعاني الفنية بحسب المحيط الثقافي للعمل الفني.
ولا بد لستراتيجية التحليل البصري لأعمال (صالح الشكيري) أن تمر بتحليل الضوء في اعماله، حيث أرى أن تلك الاعمال تتبنى قلقاً خاصاً حيال الضوء، لا بوصفه عنصراً تصميمياً للوحة، بل الضوء كفعل ثقافي داخل العمل الفني وفعل تشكيلي في هذه الاعمال يسعى ليستمد أهميتهُ غالباً من جغرافيا المحيط المكاني؛ وهو المُمهد الطبيعي لتنشيط الاستلام البصري للمعرفة التشكيلية مما يحيلهُ الى لعبة جمالية تربك التلقي حيناً وتوجهه وتقود انفعالاته أحياناً.
أما من الناحية التقنية فأعمال (الشكيري) تراعي باصرار ونهم شيئاً من مقولات الانفتاح التقني على أساليب الانتاج التكنلوجي للفن باعتبارها مقولات أصبحت تشكل ركناً حيوياً من تاريخ الفن المعاصر، ونجد أن هذا النهم يبدو جلياً في استفادة (الشكيري) من برامجيات (الكرافيكس Graphics Programs) لانتاج بعض العناصر التكوينية لأعماله التشكيلية مراعياً خصوصية الأداء الرقمي ومزاياه التنفيذية التي وظفها في الأخير لصالح المتكون الانشائي في أعماله التي يحسب لها الجرأة والاقدام وربما يحسب على عدد منها تلاشي التواصل الانفعالي للفنان مع خامته.
لا تدعي أعمال (صالح الشكيري) -المنتمي بأحقية للجيل الثالث من التشكيلين العُمانين البارزين- بأي حال الكونية والحقيقية، بل انها تعمل غالباً لتأسيس منحىً جمالياً تجريبياً لانتاج المنطق البصري للتكوينات الحروفية بالضد من المنحى اللفظي الذي يُعزز وجود الحرف العربي ضمن دائرة الثبات الشكلي والقياسي له.
الأشكال والأفكار في هذه الأعمال وإن كانت حُروفية تماماً وأحياناً خطية تقريباً، لكنها لا تمتلك اي من الصفات التعليمية أو التربوية المعتادة في تاريخ لوحات الخط العربي، ولا يعتلي الفنان هنا أي من المنصات الأخلاقية التي تعودنا وقوف الخطاطين فوقها، بل هي ممارسة ذهنية وبصرية وانتخابات شكلية تشي بمعرفة تقنية وروحية للفنان بأسرار الحرف العربي من حيث واقعه الجمالي ومنطلقاته الفلسفية، مما يُوائم بين المعرفة الجمالية للحرف وإنتاج الفن المعاصر المغادر للترويجات المثالية والتوظيفات الاخلاقية والارشادية (الوعظية Preachmentsim) التي طغت لزمن طويل على أعمال الفن والأدب العربي عموماً وأعمال الخط العربي التقليدي خصوصاً.
ومن هنا تنبع أهمية التجريب والتقدم الحذر في اعمال الفنان الذي تصر أعماله بالنتيجة على إعلاء القيم التشكيلية بميزات عُمانية سيكون من المهم جداً فهمها وتأشيرها، وهذا ما يدعوني للقول أن تجربة (صالح الشكيري) كالعديد من الظواهر الثقافية هنا تُفسر لنا في كثير من تفوقاتها وحتى في بعض اخفاقاتها بعضاً من التحولات النفسية والمعرفية والحضارية التي يتبناها المجتمع العُماني الذي يسعى لاقتراح معابر ومُقتربات وجودية تجسر لنا الهوة المخيفة بين الانتماء التأريخي والأخلاقي للموروث الثقافي، وأقصى حالات التعايش مع مكتسبات المعارف ونتاجات الانفتاح الواثق على الآخر عبر سلسلة من التحليلات الواقعية الدقيقة لمفاهيم غدت غامضة للعديدين؛ مثل الهوية والتراث والمعاصرة والتعايش التقني واحترام الذات في خضم التطور المدني.
|