ليس من السهل التعرض بالكتابة لعمل منفرد ، للوحة للفنان العراقي الكبير محمد مهر الدين ، أنه موضوع دقيق عميق يحتاج إلى وقت كاف ، وأصالة وصدق حتى تتمكن من الأحاطة بكل جوانب وحيثيات عملية التكوين والإبداع التي رافق اللوحة .. ورغم معايشتي للفنان أستاذا وصديقا لي منذ نهاية ستينات القرن الماضي ، بعد عودته من الدراسة في بولونيا إلى بغداد ونيله الدبلوم العالي من أكاديمية الفنون الجميلة في وارشو 1966 ، ثم باشر بتدريس الفن في معهد الفنون الجميلة ، بعد تفرغ أساتذة الفن فايق حسن وحافظ ألدروبي وكاظم حيدر للتدريس ولتكوين نواة لأكاديمية الفنون الجميلة في البناية المجاورة آنذاك للمعهد .... لقد أبهرنا هذا الأستاذ الجديد بقدراته وخبراته الأكاديمية العالية في الرسم والتلوين .. أنه مصمم ماهر من الطراز الأول لقد فتح أمامنا نافذة وطريقا لتجربة جديدة في تصميم الإعلان والبوستر ، مبنية على مفاهيم دراسية معاصرة ، كانت تلك التجربة الأساس الأول في تطور وانتشار البوستر كوسيلة أعلام تبنتها الدوائر الثقافية والإعلامية ، فيما بعد.
في مدينة البصرة جنوب العراق ،حيث ولد الفنان الكبير محمد مهر الدين عام ( 1938 ) وقد برزت مواهبه الفنية في سن مبكرة ، وتبلورت إبداعاته عندما قدم إلى بغداد للدراسة في معهد الفنون الجميلة ، حيث نال بتفوق عالي عام 1959 دبلوم المعهد ، ثم أكمل في وارشو بحثه الأكاديمي الإبداعي في دراسة الفن. وبعد عودته أقام عدة معارض شخصية ، كان لا يخلو فيها معرضا من بحث جديد ، نال للعراق جوائز عالمية كبيرة ، متفرغ للفن منذ ثمانينات القرن العشرين .. دؤب مواضب، رغم هموم الغربة والوجع العراقي ، فهو لا ينسى أصدقائه أبداً و برحمة الله ( شبكة الأنترنيت ) يتواصل معهم دائماً ومن عمان حيث يقيم .. وينتج ، قد أرسل لي عبر ( الانترنيت ) صورا جميلة لأخر أعماله توضح عملية الأبداع والخلق ..
حقا أنه عمل جميل .. تقنية رائعة .. وقدرة هائلة على التكوين ، لمخرجات بصرية حسية ، في التعامل الذكي مع السطوح والمستويات والكتل للحصول على نتائج أبداعية جديدة ، من خلال مثابرة في العمل واستخدام لخامات تنسجم وخبرات المبدع مهرالدين التراكمية في تقنية المادة ، ومكونات اللون التي أكتسبها بجديته التي أعتاد عليها ، وفي دراساته وبحوثه المنسجمة مع حركة الفن العالمي المعاصر والموروث القديم ، وما تركه للفنان العراقي من أثر كرافيكي على جدران التاريخ الإنساني ، وضمن ثقافة الفنان وفهمه لمحنة الكون وعذابات الإنسان ، وتغربه جاء عمله هذا.. ( آخر أعماله ) كلوح سومري لأثر خالد حمل رموزاً وكتابات ، هي عناصر مقدسة يجب أن تعزز التقنيات المقدمة ، لترفع العمل من مجرد خدمة إلى عمل إنساني أرفع بكثير من مرتبة الخدمة .
محمد مهرالدين رسم الجمال في إحداق الإنسانية، بعد إن ركب صعاب السفن وهي تمخر به عباب مجاهيل الأرض.. القطبين المهولين .. الصحارى العريضة الجرداء .. الغابات الكثيفة .. يبحث عن وجود الإنسان وصورته في الأمن البشري والسلام العالمي ، أنه مخلص لعمله الفني ، ذلك الإخلاص الذي يرتبط بالنتائج المذهلة ، بل هو كيان وحده قائم تقاس به قيمة العمل ، متفانيا من اجل الفكرة واعياً لها . في هذا العمل يؤكد الفنان على العوامل التنظيمية للإدراك الحسي ( أدراك العمق ) الذي أهتم به في أغلب أعماله كأسلوب مبني على أساس الإشارات والخطوط والرموزوالصبغات المكونة في اصطدام الضوء باللمسات البارزة والغير منتظمة حيث تسقط الظلال مخلفة عتمة ضبابية فيها أشارات لمعنى تتداخل فوقه كلمات أشبه بكتابة تجريدية على حائط بلون أسود مهمشة ذات مغزى ، لتنكشف واضحة أجزاء ومساحات أخرى تدلنا على عمق تلك الأجزاء ، تنساب بين ثناياها وتعرجاتها ملامس من ألوان الأزرق الفاتح والأخضر مع خط أبيض محفور أو مشطوب ملغي ، يتعايش مع ألانسجام اللوني والتلاؤم بين الوضوح والغبش ، وبلمسة فرشاة بلون شذري مشرق يتوسط مساحة بيضاء صغيرة تندمج مع تلك الثنايا والتعرجات وبحركة فرشاة على شكل ضربة حمراء سريعة و جريئة يحيي فيها المكان ، بما يحقق رؤية بصرية دون تناقض مع وحدة الأسلوب وغاية العمل ، في تحريك الخطوط باتجاهات مختلفة ومتقاطعة، والاختزال المتعمد وعمليات الحك و الجرف للمادة البلاستيكية ، والشطب المبهم وكذلك التنوع المتدرج للتونات الهادئة للألوان المتقاربة على مساحات مقسمة ومتجاورة .
لذا أعتمد الفنان محمد مهر الدين على جمالية التقنية من خلال توزيع المساحات داخل العمل على شكل تركيبي ومتداخل ، تتخللها مساحات صغيرة مدغومة بهارمونية قريبة للأخضر المنحاز للرصاصي أو المائل للأزرق وفي بعض جوانب العمل ووسطه عمد الفنان لخلق تضاريس ونتؤات وحفر على سطح اللوحة ، ليعطي ملمساً حسياً تدركه العين وتتفاعل معه . وبفعل جراءة الفنان واهتمامه بالعمل المتعب على سطح اللوحة ، لخلق تكوينات فنية قائمة على مبدئي التماثل والتوازن ، بين قسمي اللوحة الأيمن والأيسر ، أوجد خطاً يفصلهما بشكل وهمي ، ولعل ذلك يعود إلى قانون استقرار الحركة ومبدأ المواجهة ، وهو خطوة في استرجاع العين فطرتها الأولى في سرعة ألاندماج في رؤية العمل كاملاً والاستمتاع بمشاهدته ، ورغم تجريدية هذه اللوحة فأن الخصوصية الإبداعية لأغلب أعمال للفنان ، تكمن في بعض الأحيان على التأويل ، الذي يجريه لمنظومة بناء الأشكال والرموز والإشارات وبعض الحروف الدلالية التي تتعدا التشخيص نحو الامحدود والنهائي ، و تقتضي أبحاثاً تقنية ، وتبقى عنده اللوحة هي عالم له قوانينه وضروراته وشروطه المستقلة عن العالم الخارجي ، لا يمكن فصل الشكل عن المضمون .. عالم متماسك قوامه الألوان والخطوط والمعاني .. عالم أكثر حرية .
أكاديمي وفنان تشكيلي مسقط / جامعة السلطان قابوس
artkalash@hotmail.com www.kalashart.com
|