هل يمكن ان تصنف اعمال الفنان على اساس الثيمة الاثيرة في لوحاته وخصوصا عندما يتعرض الناقد لفنان تقع اعماله ضمن نطاق المنطقة الحرة(1).
وهي المنطقة العصية على التصنيف الفني الذي تستخدمه ادبيات النقد التشكيلي. وبالتالي هل يمكن ان يسمى الفنان نوري الراوي بفنان المدينة، وهو الفنان الذي طالما اقترنت لوحاته في النقد التشكيلي العراقي بمدينة راوه، المدينة التي نشأ فيها، مع الخصوصية التي تمنحها اعمال نوري الراوي لفكرة المدينة.
بمعنى اخر هل يمكن ان تقترح هذه المقالة طريقة جديدة لتصنيف العمل الفني بعيدا عن الاسلوب الفني الذي يتبعه، خصوصا مع التطور او التغيير في الاسلوب الذي يرافق مسيرته الفنية.ان اقتراح تصنيف جديد للاعمال الفنية اعتمادا على الثيمة الاثيرة للفنان بغض النظر عن الاسلوب الذي يتبعه في التعامل مع هذه الثيمة، يفترض الاعتماد على ما يمكن ان نطلق عليه ظاهرة في الاداء الفني المعاصر، بمعنى ان تكون المدينة هي الثيمة الاثيرة لغير واحد من الفنانين المعاصرين وفي اكثر من مكان في العالم ليبرر التعامل مع هذه الثيمة بوصفها ظاهرة تستحق المتابعة والتصنيف.
لقد تتبعت في السنوات القليلة السابفة مجموعة من المواقع الفنية العالمية المشتركة والمواقع الشخصية الموجودة على الشبكة العالمية وقد لاحظت ان الفنان يتمسك بالثيمة اكثر من تمسكه بالاسلوب، ربما لان الثيمة اكثر قدرة على التكيف في وعي الفنان مع مستجدات الحياة من الاسلوب الذي يفترض التغيير مع تغير وعي الفنان بادواته ووسائله التعبيرية. وقد لاحظت اكثر من فنان جعل من المدينة بوصفها منطلقا تعبيريا لرؤيته الفنية وقد رصدت هذه التجارب في مجموعة من المقالات التي نشرتها مؤخرا ومن هؤلاء الفنان الكوبي غوستافو اكوستا(2) والفنان الاسترالي دايون ارشيبالد والفنان الايطالي فابيو ماريا ليناري(3) والفنان الامريكي اندرو ويث(4).
بالاضافة الى الفنان العراقي محمد جاسم الزبيدي. ويمكن للمتصفح للمواقع الفنية العثور على امثلة اخرى في موقع www.artrussia.ru . تجدر الاشارة الى ان رسم المدن له امتداده التاريخي في رحلة الفن التشكيلي اذ (أن رسم المدن برز في أواخر القرن السابع عشر، من خلال أعمال فنانين من أمثال كاناليتو canaletto (1697ـ 1768) و فرانشسكو غواردي Francesco guardi (1712ـ1793 ) ، حينها كانت لوحات المدن تطلب من قبل بعض السياح ليصحبوها إلى بلدانهم كتذكار لزيارتهم لبعض المدن السياحية كما يذكر الناقد فيرن ريسك شابلي fern rusk shapley كانت تلك الأعمال تحتفي بالمدينة والإنسان الذي يعمّرها واصبح لها قيمة توثيقية بالغة الأهمية)(2).
واستمرت هذه الثيمة تمارس تاثيرها على فناني الاسلوب الانطباعي ويبدو انها بقيت تمارس هذا التاثير على عدد من الفنانين المعاصرين ، ومن هنا اجد ان تصنيف رسام المدينة يستحق ان ينظر اليه بعين الاعتبار من خلال دراسة وافية تتناول الامثلة العالمية بمقاربة اكاديمية اكثر عمقا. واذ نحن اخذنا بهذا التصنيف فكيف ننظر الى مدينة نوري الراوي، وهل تحيلنا اشتراطا الى مدينة راوه . وهنا نشير الى اننا حينما نضع الفنان نوري الراوي ضمن رسامي المنطقة الحرة فذلك لانه اثر ان ينطلق من ثيمته ليتوصل الى اسلوبه, ان بحثه عن المدينة التي يواجهها المتلقي، كان الدليل لفرشاته وهي تختار ايقاعها واسلوبها، وهذا ما يميز رسامي المنطقة الحرة ، ان رحلتهم لاتبدؤها الاساليب وانما رحلتهم هي التي تخلق الاساليب المناسبة التي ترافقهم في رحلتهم الى اعماق الروح، وهذا ما يجعل المتلقي امام لوحة نوري الراوي في الوهلة الاولى يحس انه امام مدينة حلمية قابعة في اعماق الروح ؤ قلما يتاح للمتلقي ان يقف امام لوحة مدينة يمكن ان تمنحه مثل هذا الاحساس بالدفء والسكينة حتى ليشك لوهلة بان هذه المدينة هي ذاتها مدينة راوه -وان استعارت بعض من مفرداتها كالناعور على سبيل المثال- ان الايقاع الليلي المفعم بالدفء لالوان هذه المدينة وما يمثله هيمنة القوس على ادائها الهندسي ، هذا الشكل الوديع المسالم المرتبط بقباب المساجد -هذا الشكل الذي يختصر ايقاع لقاء الانسان مع الله - لا يمكن لاي مدينة ماهولة ان تمنحنا مثل هذا الاحساس ولذا وامام مثل هكذا قناعة فنحن نرجح ان مدينة راوه وهي تلعب دور الملهم في اعمال نوري الراوي ، كانت الدليل ليكتشف مدينة الروح الموجودة في اعماقنا جميعا.
ربما نطئن لهذا الاحساس ولكننا عندما نسائل استنتاجنا نطرح سؤالا اخر، ماهي حدود اللقاء او التقاطع بين مدينة راوة وبين مدينة الروح هذه وما الذي اخذه نوري الراوي من راوه وهو يشق طريقه الى مدينة روحه- اذا لم تكن هذه المدينة هي راوة- وهل يقتصر دور راوه على كونها الدليل الحاذق الذي جعل نوري الراوي يكتشف ما لم يوفق الى اكتشافه غيره. هل يمكن الاطمئنان الى هذه الحلمية المطلقة. فنكتفي بان تكون هذه المدينة المرفا المتخيل الذي تبحث عنه ارواحنا ؟ اعتقد اننا نظلم ارواحنا عندما نجرد هذه المدينة من انتمائها للحقيقة، حقيقة ان للمدينة -اي مدينة- في روح الفنان مرادف عميق ، صورة مقابلة ولكنها من تصميم الروح . هي ذات المدينة وان بدت مغايرة لعين المتلقي، ذلك لانها مرسومة بلغة الروح . اظن ان هذه الحقيقة تشعر المتلقي بالاطمئنان ، انها تعيد احساسه بالانتماء، والرضا امام هذه المدينة لانها هي ذاتها راوة الموجودة في ارواحنا جميعا ولكننا نراها امامنا مجسدة بالوان وخطوط نوري الراوي.
(1) رسامو المنطقة الحرة- محاولة في ايجاد مقاربة جديدة في تصنيف العمل الفني/ د.فائز يعقوب الحمداني/ جريدة الاديب.
(2) المدينة فارغة –قراءة في اعمال الفنان الكوبي غوستافو اكوستا/ د.فائز يعقوب الحمداني /جريدة الاديب
(3) نيويورك فتاة الليل- قراءة في اعمال الفنان الايطالي فابيو ماريا ليناري/د.فائز يعقوب الحمداني /جريدة الاديب.
(4) الزمان في المكان- قراءة في اعمال الفنان الامريكي اندرو ويث/د.فائز يعقوب الحمداني/جريدة الاديب. |