كانت لورنا قد نزلت الى لندن في ايلول 1945 اما هو فجاء اليها في شباط 1946 على امل ان يدرس في كلية تشلسي بولو تيكنيك . عندما ذهب الشاب العراقي للدوام في تلك الكلية وجد ان لكل طالب بطاقة يتوجب عليه ان يخرمها عند الدخول والخروج لضبط ساعات الدوام على غرار ما يفعله العمال في المصانع ولأن جواد سليم لم يكن طالبا عاديا بل ذلك الفنان البوهيمي المتمرد على القيود فلم يحتمل نظام كلية تشيلسي اكثر من اسبوع وسارع لنقل اوراقه الى سليد سكول تماما مثلما هربت لورنا من كلية المعلمات في ريدنغ .
لم تجمع الظروف البنت الانكليزية والطالب العراقي في صف واحد فهي في قسم الرسم وهو في قسم النحت الخاص به لكنهما التقيا على الرغم من تباعد الصفوف . وكانت للورنا صديقة تدعى مورين خطبت الى طالب في قسم النحت يدعى نك وكان صديقا لجواد فكان لابد لدائرة التعارف من ان تكتمل، ولأن جوادا كان في تلك الفترة يعزف ببراعة وكانت تعزف على الكمان فقد جمعتهما الهواية الموسيقية المشتركة وصارا يلتقيان ليعزفا معاً .
جاء جواد مبكرا الى لندن لتعلم الانكليزية تمهيدا لبدء الدراسة في ايلول فالتقى لورنا في اواخر تلك السنة ووجد فيها البساطة التي كان يبحث عنها . أما هي فعندما تحاول اليوم بعد نصف قرن على ذلك اللقاء ان تتذكر شكله يومذاك فانها لاتجده مختلفا عما آل اليه في أخريات حياته ولعل البشرالذين يكبرونه الواحد مع الاخر لا يلاحظن التغيرات التي يتركها الزمان على شركائه. إنها تصفه اليوم بانه كان قريبا جدا من الانطباع الذي هو في مخيلة الناس عن الفنان البوهيمي سواء في ثيابه او تصرفاته او في قوله ولهذا السبب لم يكن يبدو عراقيا بشكل واضح بل كان يحاول الابتعاد عن انماط التصرفات التقليدية للطلبة العرب ويسعى الى رسم شخية خاصة به متفتحة على كل ما هو جديد ومختلف . انجذبت لورنا الى ذلك الطالب الذي لا يشبه الاخرين والميال ميلا شديدا الى الفكاهة والمهتم بالموسيقى والشعر وحفلات الباليه ثم ان جواد لم يكن مثلها فنانا مبتدئاً بل كان قد سافر الى باريس في عام 1938 ودرس لمدة سنة في معهد البوزار ولما قامت الحرب استدعت بغداد طلابها المبعوثين الى فرنسا فانتقل جواد الى ايطاليا ليدرس سنة اخرى في اكاديمية روما للفنون فلما دخلت ايطاليا الحرب ايضا اضطر الى العودة الى بغداد بانتظار فرصة جديدة ولقد كانت تلك فترة الانتظار مفيدة لجواد اذ عمل خلالها في المتحف العراقي يرمم الجداريات الاشورية المتصدعة ويستلهم منها ينابيع ابداع متجدد لاينقطع جسوره مع الاصول . إنها ايضا الفترة التي تعرف بها جواد وزملائه الفنانون العراقيون على مجموعة من الرسامين البولونيين الذين وصلوا بغداد مع الحلفاء في اثناء الحرب وقد تركت لقاءاته بهؤلاء البولونيين اثارها الايجابية على تكوينه الفني وفتحت امامه افاق مهارات جديدة في استعمال الاوان .
اما الغيتار فكان جواد قد تعلم العزف عليه على يد فنان تركي اقام في بغداد اسمه ميسو جميل واخذه الولع بهذه الالة بحيث بدأ بجمع كل ما يكتب عنها في الصحف ويحتفظ بصورة مشاهير العازفين العالميين عليها ولعل ولع جواد بالغيتار جاء من التشابه بينه وبين العود هذه الالة التراثية التي كان سلفه الفنان يحيى الواسطي بارعا في العزف عليها وعندما تعرفت لورنا عليه كان جواد يمتلك غيتارا ايطاليا صغيرا ولطيفا لعله اشتراه من روما قبل مجيئه الى لندن وقد اقتنى بعد ذلك غيتارين اخرين واستعار ثيابا اسبانية من تلك التي يلبسها راقصو الفلامنجو لكي يرتديها في الحفلة التنكرية اقيمت للطلبة الجدد في الكلية تعلم جواد الفلامنجو من عازف اسباني يدعى السنيور بيبي كان يعمل نادلا في احد مطاعم لندن وكانت زوجة بيبي تغني في المطعم نفسه . وبعد ذلك انتمى الى جمعية عازفي الغيتار ولكنه لم يبلغ في العزف مستوى متميزا بل استمر يعزف مثل الذين يتعلمون العزف متأخرين أي في سن تكون فيه اليدان قد اخذتا شكلهما الغنائية ولو اتيح لجواد ان يتعلم الغيتار وهو مراهق لاصبح عازفا ماهرا خصوصا انه كان حريصا على التمارين كل يوم . ساهمت الهوايات المشتركة في توطيد الصداقة بين لورنا وجواد فكانا يذهبان معا الى العروض المسرحية والراقصة في امسيات السبت حينما يتوفر لهما ثمن التذاكر اما الامسيات الاخرى فكانا يمضيانها في الاحاديث الفنية او الالتقاء في الاصدقاء الذين يدرسون في الكلية نفسها . لقد كان جواد الطالب العربي الاول الذي تتعرف عليه لورنا عن كثب وهي قبله لم تكن تعرف الكثير عن العراق ولا عن العرب عموما لقد استهواه فيه اسلوبه في التحدث باللغة الانكليزية اذ لاحظت انه مثل كل القادمين من الشرق الاوسط ينطق كل حرف من حروف الكلمة بشكل بدا بالنسبة اليها جذابا ومختلفا عن الذين يبتلعون نصف الحروف . فيما بعد صار بمقدورها ان تميز الطلاب العرب من خلال لكنتهم الخاصة بل انها بشيء من الانتباه اصبحت قادرة على معرفة البلد العربي الذي جاء منه المتحدث لان لكنة اهل مصر وهم يتحدثون الانكليزية تختلف عن لكنة اهل العراق مثلا وعن لكنة السوريين .
لقد ادركت منذ لقائها الاول به انها امام شخص يستطيع ان تثق به وليس من طبعه التضليل وشعرت انه صادق ومنفتح جدا على الاصدقاء بحيث ان صداقتها نمت بالتدريج حتى اصبحت حبا . لاتذكر انها قالت له في تلك الايام انها تحبه ولا تذكر انه صارحها بانه يحبها وانه يريد ان يتزوجها ولكنهما كانا يمتلكان احساس الحب في داخلهما ويشعران ان طريقهما بات واحداً في الاتي من الايام . ولورنا ليست من ذلك النوع الذي يؤمن كثيرا بالقدر وهي لاتعير اهمية للغة المصائر التي تتقارب وتتقاطع وا تتباعد او تنتافر صحيح ان الحرب قد فرضت على جواد ان يترك باريس الى روما ثم يترك روما عائدا الى بغداد لكي يمكث فترة ثم يختار لندن هذه المرة لمواصلة دراسته الا ان لورنا لاترى اصابع القدر في كل تلك التناقلات ولا في تحول جواد من مدرسة تشيلسي الى سليد ولا في صداقته لخطيب صديقتها بل تعتبر ان الممارسات التي قادتها اليها وقادتها اليه مجرد حظ سعيد انها تقول : من حظنا اننا التقينا فلو ابديت شطارة اكبر في الفرع العلمي لما وضعت قدمي في سليد يوما المهم انهما التقيا وان لورنا انهت سنوات الدراسة الثلاث في سليد بنجاح وانتقلت الى كلية اخرى للتحضير لسنة رابعة تؤهلها للتعليم . فقد كانت مدة منحتها الدراسية اربع سنوات ولان جواد التحق بسليد بعدها بسنة فقد كان متوقعا ان ينتهيا في الدراسة في وقت واحد لكن الذي حصل ان صحة جواد اعتدلت بعد وصوله الى لندن وانقطع لفترة عن الدراسة لاصابته بفقر الدم ونوع من الحساسية ضد الادوية وقد كتب بذلك الى بغداد فجاءت الموافقة على منحه سنة دراسية اضافية اخرى وبرغم اعتلال صحته استطاع جواد من ان ينهي الدراسة في سنتين بدلا من ثلاث وقرر ان يشتغل السنة الاضافية الممنوحة له في انجاز اعماله الفنية الخاصة لكنه حالما حصل على شهادة التخرج في سليد جاءه اخطار من بغداد يطالبه بالعودة الى الوطن ما دام انه قد انهى الدراسة المتعاقد عليها ولم يجد جواد مفرا للانصياع للاخطار عندما حان وقت عدته الى العرلق في عام 1949 قال للورنا انه يرغب في الزواج بها واخذ القطار الى سفليد ليخطبها من ابيها حسب الاصول ولعل تلك واحدة من المرات القليلة التي سار فيها جواد وفق التقاليد المرعية بكل طيب خاطر ز اما الوالدان فكان يعرفان صديق ابنتهما من زيارات سابقة وعطلات امضاها في ضيافتهما وكانا يحبانه ويعجبان بثقافته وموهبته الفنية لكنهما لم يكونا راغبين في ان ترحل ابنتهما الوحيدة الى اخر الدنيا . وعلى اية حال كانت قوانين البعثات العراقية تمنع الطالب من الزواج في اثناء سنوات الدراسة في الخارج . ولا بد من ان يعود الى العراق اولا ويفك ارتباطه بدائرة البعثات قبل ان يقدم على الزواج . وقد اغتنم والد لورنا هذه الاشكال وقال لجواد عد الى بلدك اولا ايها الشاب فاذا شعرت هناك انك مازلت راغبا بالزواج من ابنتي يكن لكل حادث حديث . وعاد جواد الى بلده وكتب الى لورنا من بغداد يقول : لاادري لماذا دعوتك للمجيء لهذا المكان المستعمر منذ قرن حيث الغبار يغطي الاشجار والشوارع وحافات النوافذ واهداب العيون وكل الاشياء والغريب انها لم تحتفظ باي من رسائله اليها . لقد اتلفتها كلها ذات يوم بعد ان صار يؤلمها في تلك الرسائل اما رسائلها اليه فمازالت موجودة . بقيت لورنا في لندن سنة بعد جواد عملت خلالها في التدرس ثم تركت كل شيء ولحقت به الى بغداد المدينة التي يرن اسمها في الاذن مثل رنين دنانير الخلفاء الذهبية مثل الف ليلة وليلة .
|