في عام 1999، أحسّ كريم رسن (1990) أنّ اللوحة التقليدية لم تعد تكفي لتصوير كل ما لديه، كانت مشاغله كرسّام تتضاعف وتتسع رؤيوياً وتنفيذياً، بينما كانت مشاكل العراق تحتدم لتبلغ ذروتها. كانت الأشياء تتداعى لتنبئ بكارثة لا يمكن تأجيلها. فإذا به يجد في الدفاتر حلاً تشكيليّاً. هكذا، اطّلع على تجارب دفترية لضياء العزاوي، إيتيل عدنان وشاكر حسن آل سعيد بدفاتره التأملية التي كانت تحاول أن تقارب تجارب شعرية... وبدأ هو من هذا المفترق. رسم سيرة الحلاج في دفتر، محاولاً أن ينقل عذاباته وأحلامه وكينونته الشعرية. كان ما أنتجه يشبه رسالة ملحميّة لا سيرة تاريخية مصورة. ثم توالت دفاتره بعد ذلك: «درب الآلام» (1999)، «كتاب العالم السفلي» (2001)، «الألواح النذرية» (2002). كان يستعير شكل الدفتر كمجال للرسم، لكنه لا يحافظ على بنيته التدوينية. الرسوم تتوالى بين غلافين لتقدّم شذرات متفرّقة عن موضوع محدّد، لا تاريخاً له، تشبه «سيناريو» بصفحات متتالية تقدّم رؤية لهذا الحدث... كان يستخدم موادّ مختلفة لتقديم رؤيته تلك: أعواد بردي، قطع خشب، قماش، مسامير، أو يكتفي بخامات الرسم الأولى. في دفتر «درب الآلام» حاول رسن من خلال 45 صفحة مرسومة بالأسود والأبيض، أن يعبّر عن آلام الإنسان العراقي في سنوات الحصار. هكذا، وجد أنّ التقشف اللوني والتضادّ بين لونين يساعدانه على إيضاح الثنائيات الوجودية الأساسية: الموت والحياة، الخير والشر، الضوء والظلام. كتب أيضاً مقدمة لهذا الدفتر ذكر فيها أنّ الورقة بيضاء والفعل بالأسود... ومن الممكن أن يرى المشاهد الأمر معكوساً. وفي دفاتر أخرى، قدّم الفنان العراقي بعداً وثائقياً لحدث ما، أو قدّم رؤيته السياسية: «حضارة اليورانيوم» عبَّر فيه عن عذابات الذين أصيبوا بالسرطان نتيجة القصف الأميركي للمدن العراقية باليورانيوم المستنفد. أما «حرائق بغداد» (2003) فرسمه بعد أيام من الاحتلال ليصوّر ما حدث في مدينته من دمار همجي. هكذا، رسم ما كُتب على الجدران، آثار الغزاة، الدخان المتصاعد من البيوت والأجساد المحترقة، نهب المتحف وتدمير المواقع الأثرية... استخدم لذلك أجزاءً من صور فوتوغرافية، ونصوصاً مطبوعة، ليصل إلى مبتغاه. هو عموماً يقسِّم عمله في الدفاتر إلى قسمين أساسيين: جمالي يوضح فيه مشاغله كرسام، وكيف يتعامل مع النصوص أو يشتغل على كيفيّة استيحاء المواضيع الأدبية، ثم توثيقي يستند إلى استجاباته للأحداث. أمّا تنفيذياً، فيتّخذ كل دفتر شكلاً يتناسب مع فكرته: دفتر «ما بين النهرين» (2007) اتخذ شكل أكورديون، وارتكز على التشخيص أساساً، لأنّ الموضوع يحتاج إلى ذلك. «بغداد مدينة مجزّأة» (2007) اتّخذ شكل الخارطة المطويّة التي تآكلت بفعل قدمها، وانتشرت في ثناياها عبارات مثل: هنا كان بيتي، احذر الأمريكان، رسائل التهديد التي يدوّنها الإرهابيون وأفراد الميليشيات على جدران البيوت... هناك دفاتر تشاهَد من أربع جهات ودفاتر ينبغي أن يجري تصفّحها ورقة تلو أخرى، ورسن لا يجد تناقضاً بين خصائص رسمه التجريدي وما يلجأ إليه من وسائل توضيحية في الدفاتر. هناك مزاوجة بين التجريد والتشخيص، استخدام لعناصر اللوحة: العلامات، الخطوط مع عناصر تشخيصية. لغة الإشارة التجريدية وحدها لم تعد تكفي للتعبير عن كل الأشياء، بل ينبغي اكتشاف تنويعات الأسلوب إلى أقصى مدى، الأشكال المبسّطة مع الرموز والأيقونات التجريدية، وإحداث تداخل بين هذه وتلك لبلوغ مستوى تعبيري يريده الرسام. ومن الطريف أنّ ما كان يكتشفه رسن في الدفاتر من عناصر شكليّة كان ينتقل إلى لوحاته، حريّته على صفحاتها كانت عاملاً مساعداً على تنفيذ أفكاره على المساحة المحدّدة للوحة. هناك تقنيات على الورق تظهر تلقائياً، فيقوم بتثبيتها لاستخدامها لاحقاً، الدفتر بشكل ما وسيط لاختبار الأفكار واكتشاف جدواها. ثلاثون دفتراً مرسوماً أنجزها رسن حتى الآن، وفكَّر أكثر من مرة في أن يقيم معرضاً خاصاً يضمّها، بعد 8 معارض شخصية أقامها لرسومه... لكنه كان يفقد هذه الدفاتر، يبيعها أو يهديها، ولا يستطيع تعويضها. كما أنّ تفكيره في أسلوب العرض ظل يشغله دائماً: كيف يمكن المشاهد أن يراها، ويتأمّل كل تفاصيلها؟ هذه الأسئلة ازدادت حضوراً لديه، بعدما أدخل بعض الدفاتر في معارضه الأخيرة، ووجد طريقة عرضها محرجة وغير عملية. أما في لندن وضمن معرض «الكلمة في الفن لفناني الشرق الأوسط» الذي أقامه المتحف البريطاني عام 2006 وانتقل أخيراً إلى دبي، فقد عرض رسن دفترين هما: «حضارة اليورانيوم» و«حرائق مكتبات بغداد». وكلاهما استرعى الأنظار، فكلّفته إدارة المتحف أن ينجز عملين هما «كلّ يوم» عما يحدث في بلاد الرافدين يومياً من عمليات إرهابية، و«الطروس» الذي يستوحي المخطوطات القديمة ويشير إلى التناظر بين الحرف المقروء والحرف المطروس. كما شارك في معرض للدفاتر المرسومة لعشرة رسامين عراقيين منهم: ضياء العزاوي، رافع الناصري، نديم الكوفي، غسان غائب... وتنقّل بين ثلاث ولايات أميركيّة مثبتاً أنّ الدفاتر هي تجربة خاصة جداً في الرسم العراقي المعاصر، وأنّ رسّاميها متواصلون مع تجارب الحداثة مثلما أفادوا من المنمنمات والكتب القديمة في التراث العربي التي يحفل بعضها بالرسوم التوضيحية. كما كشف أنّهم لا يحاولون بذلك مسايرة موضة عابرة، إذ إنّ رسم الدفاتر مهمة شاقة، إنّه الجانب العميق من التجربة، وهو يجري لأنّ الرسام يعاني مشاكل عالقة لا يستطيع حلها في اللوحة، بل أكثر من ذلك، لم يعد كريم رسن يقدم رؤى الآخرين مرسومة، ولم يعد رسّاماً توضيحياً. ما يرسمه الآن يستند الى أفكاره هو، يقدّم مؤلفات مرسومة عبر نصوص يكتبها ثم يعيد تأليفها صورياً. هي شهادات عن عالمه الباطني والخارجي على حدّ سواء... وهذا ليس ترفاً ولا احتيالاً على الرسم نفسه. هو دائماً بحاجة إلى فسحة لتأمّل خصائص الوسيط التنفيذي واكتشاف جدواه، وذلك ما يتيحه الورق له أكثر مما يتيحه أي شيء آخر. ________________________________________
رسـوم ما بعد الزلزال منذ منتصف الثمانينيات، بعد تخرجه من كلية الفنون الجميلة (1988)، طوّر الرسام العراقي كريم رسن أسلوباً تعبيرياً مستمداً من مصادر عدّة. وربما كانت القراءة الأولية لرسومه في تلك المرحلة تتوصل إلى إعادة كل تفصيل فيها إلى المصدر الذي جاء منه: التاريخي إلى سياقه... والحكائي إلى متنه... والسيميائي إلى منظومته اللغوية... والشكلي المجرد إلى أصوله الزخرفية. في مرحلة لاحقة، ركّز رسن على تطوير قيمة التجريد في رسومه، من دون أن يتحول إلى رسام تجريدي تماماً، كان يهتم بالأثر وبما تتركه الأشياء من بقايا على المظاهر المرئية، ويبحث في آثار الإنسان والموجودات عن قرين يعيد تشكيله على مساحة السطح التصويري، مؤلفاً حكاية من أنسجة متعددة تختلط فيها أقنعة التاريخ وظلال هذه الأقنعة، حتى لتصعب إعادة كل منها إلى خزانته المتحفية. هذه الاستعارات «بحسب وجهات النظر المختلفة» قد تولِّد أو توحي بصورٍ لا نهائية، وقد لا ينتج عنها أي شيء. إنّها تعبر عن حرية الرسام في مقاربة أشكاله ومعالجة مظاهرها، وقد مارس رسن تلك الحرية تعويضاً عن قيود المحيط الصارمة، وعن هيمنته المستمرة على حيوات الأفراد في زمن قاس وملتبس. ظل أيضاً يراقب أعماله تأتي وتذهب، تدور حول العالم وتجد مكانها على جدران أفضل المتاحف، فيما يكتفي هو بنوع من الحج العقلي ليؤنس وحشته. إذ كان يطمح إلى أن يرى نهاية للمأساة، مؤجلاً رحيله باستمرار. لكنّ الزلزال الذي حدث بعد الاحتلال الأميركي، أجبره، مثلما أجبر الملايين، على الهجرة القسرية إلى دمشق (ثم إلى أين؟) بعدما تلقّى تهديدات بالقتل من إحدى العصابات المذهبيّة. انتقل فنّه منذ ذلك الحين إلى مرحلة جديدة، اختلطت فيها الوثائقية بالنوستالجيا والحزن والجماليات المأساوية التي استبطنتها أعماله القديمة... فما الذي يمكن للرسام أن يفعله أمام أجساد مقطوعة الرؤوس... وآثار دمار... وريح الظلامية التي تعصف بكل شيء؟ كريم رسن الآن على مفترق طرق، رساماً وإنساناً، لكن ماذا أمامه سوى المصير المجهول؟
|