تتجه دراسة البنى التكوينية في النحت المعاصر الى الاعتماد والتركيز على المكونات الاساسية للمنجز النحتي منظم ارتباطا بعضها عم البعض الأخر من دون تجاهل المضامين تلك المنجزات وما تحتويه من القيم التعبيرية التي تميز تلك المكونات من نظريتها من التكوينات الأخرى سواء المعاصر لها أو السابقة وسواء تلك التي كانت أصلية أو المورثة أو متأثرة بما حولها وإظهارها الى المجتمع بلغة أعضاء ذلك المجتمع لأن لغة تترجم في ذات الأوان وفقا للخزين المعرفي الفكري الذي يميز ذلك المتلقي عن سواه .
إن تلك البنى التكوينية لها رد الفعل المباشر على شكلية المنجز النحتي المعاصر بعد إسقاط آثار وعوامل التنفيذ وتقنياته على خاصة العمل الاصلية والتي تعد الوسيط المادي الذي يتخذ سبيلا لتعبير النحات عن انفعالاته الجمالية وما يترتب على ذلك من تكوينات مختلفة وإعطاء الخصوصية البنائية لكل منها وما يتولد من منظومة العلاقات الترابطية بين عناصر تلك التكوينات .
أي إن البنية التكوينية تعتمد في بدايتها على خاصة العمل الأولية وما تحمله من مقومات تساعد في اجراء مختلف العمليات التكوينية التي تلائم خصوصيتها البنائية في حين إن لا يمنع النحات المعاصر من ترويض الخامات وإجراء العمليات الصعبة عليها , هذا الأمر قد ساعد في نشوء بنى تكوينية متعددة ومختلفة في النحت المعاصر فسحت المجال امام النحات لبلوغ مراده في إنجاز الفني النحتي وبطرق بنائية متنوعة .
لقد سعى النحات دوما نحو أزلية منجزة النحتي لذا تحتم علية لتحقيق هدفه هذا هو إيجاد المادة الأزلية من جهة أولى وتكوين أزلي ينسجم مع أزلية تلك المادة وبذلك تتحقق المعايير المادية الأزلية وديمومة المنجز النحتي المتفق مع روح المضمون المعبر عن المعرفة الخاصة والعامة للنحات المبدع لذلك نجد العديد من منجزات النحتية المعاصرة قد نالت ديمومة البقاء لما تحتويه من مضامين وبنى تكوينية ضمن التنظيم الشكلي العام على الخاصة المتلاحمة مع تلك الديمومة . فعلى سبيل المثال النحات الفرنسي ( رودان - Rodin ) قد نال ديمومتها من خلال بناها التكوينية وخاماتها ومضامينها التي عمد فيها الى العودة الى جمالية الشكل البشري كما عمل في ( عصر البرونز ) ذلك الشكل الذي يتميز بديمومته التي تلازم ديمومة البشرية .
فالفكر لدى النحات هو الذي يقوم أنظمة العلائق فيما بين جزيئات البنية التكوينية في الشكل النحتي المعاصر أي ضمن دائرة النظام التكويني العام ويتفاعل مع ما يحمله كل عنصر من مقومات ذلك التكويني تبعا لنظام بناءها ( أسلوب تنفيذها ) وماله من أساسيات وخصوصيات ذلك النظام التكويني بدءا من خصوصيات ومميزات الخطوط والكتل والفراغات مرورا بالسطوع وملامسها والظل والضوء مضافا لذلك أنظمة وعلائق ربطها ضمن بنية تكوينية واحدة منسجمة بطبعها الجمالي .
كل هذا وذلك دعى الى التعددية في البنى التكوينية في النحت المعاصر تلك التعددية التي ساعدت في فتح آفاق الإبداع لدى النحاتين المعاصرين وإخراجهم من القولبة في بنية واحدة . لذلك سنستعرض بعض تلك البنى التكوينية المعاصرة في النحت والوقوف عند أبرز مقوماتها وتباينها مع نظيراتها من البنى الأخرى .
1 – البنية التكوينية الكتلية.
ضمن نطاق الوعي القصدي من قبل النحات في إبراز منجزه النحتي ومن حيث اعتماده البنية التكوينية الكتلية فأنه يخضع لما تسميه بعض الضوابط التي يجب عليه تحقيقها بغية في وصوله الى مبتغاه النهائي وما يرجوه من اختياره لهذه البنية عن سواها وفي طليعة تلك الأمور التي يعتمدها ضمن هذا النوع من البني التكوينية هو التراص الكتلي ومن ثم الابتعاد عن تفرقة أجزاء التكوين الكتلي النحتي عن طريق الابتعاد عن المحور الوسطي للعمل وفتح إنشائية العمل في اتجاهات متعددة كذلك تفتيت الكتلة النحتية بالفضاءات الداخلية وما يدعى – الفجوات – وهذا النوع من البنى يمنح الشكل النحتي القوة والتماسك والثبات والموازنة المستقرة اكثر من غيره من انواع البنى التكوينية الأخرى , وذلك ناتج بتفاعل كل عناصر ومكونات العمل النحتي مع بعضها البعض وإحداث التداخلات فيما بينها كسقوط الظلال بعضها على البعض الآخر الناتجة عن التداخل فيما بين الكتل وما يماثله بالنسبة الى الخطوط والسطوح وبقية العناصر للتكوين العام . إن ذلك لا يفقد الشكل المنحوت الطابع الحركي بل حركية العمل هي التي تحدث مثل هذه الاجراءات على أنظمة البنية التكوينية ضمن هذا النوع من البنى ويتمثل هذا بوضوح في التكوينات التي يحدثها الجسم البشري على سبيل المثال في وضع الجلوس او التراص فيما بين اكثر من شخص ضمن المحور الواحد , ومن الجدير بالذكر إن هذا النوع يكثر ضمن التكوينات التي تعتمد المادة ( الخامة ) الكتلية – حجر – خشب – مرمر – إلا أن ذلك لا يعني عدم تحقيق هذا النوع من البنى التكوينية في مواد أخرى كالبرونز مثلاً بل يمكن أن يكون بهذه المواد أسهل في عمل القالب وفتحه حسب المواد وما الى ذلك من العمليات في حسب المواد المظهرة .
وعند استعراض منجزات النحت المعاصر لتحقيق ما ذكرناه وبالخصوص في ( الشحاذة المبرقعة ) للنحات الالماني إيرنست بارلاخ ( Barlach ) و ( المفكر ) للنحات ( رودان - Rodin ) حيث تجسدت البنية التكوينية الكتلية بمفرداتها وعلائق ربط جزيئاتها وكذلك بالاستعانة بالخصائص الفنية لمادة البرونز وما تعطيه من حرية للنحات في استنزاف خصائصها ومدى مطاوعتها لأخذ الشكل المطلوب .
2 – البنية التكوينية الحركية.
تهيمن الحركة على فكرة تجسيد الحدث الحياتي ضمن دائرة الشكل النحتي أكثر من السكون وما تستهدفه الحركة من إحداث الأثر في التلقي من حيث تفاعل عناصر التكوين وما تصنعه في المجال الحركي وما تعطيه الحركة من منجزات البحث ضمن نطاق التحرر من السكون الكتلي الذي تتمحور حوله بعض البنى التكوينية في النحت . لذا يتعين على النحات ضمن نطاق هذه البنية إحداث نوعا من التجارب مع كيان كتلته النحتية العام وجوانبها المتعددة وعوامل ربطها والمؤثرات على تكوينها – الداخلية والخارجية – الى تحقيق الايقاع او الطابع الحركي بشتى جوانبه واتجاهاته ( تنازلي – تصاعدي – امامي – خلفي – جانبي – داخلي - خارجي - ... الخ ) بحيث تنخرط جميع مكونات العمل الى هذا الاتجاه لكي تتمكن البنية التكوينية العامة من إحداث او انجاز الهدف المرجو من استخدامها كوسيلة بنائية وهذا يحدث التفاعل بين المضمون الفكري للعمل النحتي مع البنية التكوينية العامة بعد تحقيق العلائق الترابطية بين المكونات العامة وفي المقابل منح المتلقي نوعا من الشد والتفاعل فيما بنه وبين العمل وبما يضيء الطريق في إحداث التاثير فيه وهذا ما ينمي اواصر الاتصال فيما بين الثلاثي ( النحات – العمل – المتلقي ) ولمزيد من التوضيح لهذا النوع من البنى التكوينية هو في التعرض لعمل النحات بوتشيوني ( استمرارية في الفضاء ) وما يحدث فيه من جراء الطابع الحركي العام للعمل والتي تفاعل من اجل تحقيقها انحناءات الخطوط ومن ثم انقادت لها السطوح فبدت مكورة ذات ظلال متدرجة من النور الى القيمة بحركة نقلية هادئة للظلال والنور بالاضافة الى إن التقدم الحركي نحو الأمام ساق جميع تلك الاتجاهات الأخرى وجذب المتلقي الى المحور الحركي في العمل وما يرجوه النحات من وراء ذلك التحول الحركي .
3 – البنية التكوينية الفضائية.
أصبح الفضاء من المجالات المهمة والرئيسية التي تشغل فكر النحات عندما يبتغي تنفيذ أي عمل نحتي , وذلك لان الحدث المكاني الذي يقوم به النحات في عمليات التنفيذ يتطلب منه التعامل وبشكل حذر مع المحددات الفضائية الخارجية وكذلك الداخلية والتي اصبحت ودون ادنى شك في تلاحم وترابط وثيق مع مكونات واجزاء الكتل النحتية في التكوين العام للشكل لأن النحت وكما تعرفه ناثان نوبلر ( انه تنظيم منسق للكتل الموجودة في فضاء حقيقي ) , وضمن البنية التكوينية الفضائية تتحدد مجالات العلائق الترابطية فيما بين قطبي الأثر النحتي ( الكتلة ) و ( الفضاء ) وايجاد السبل التبادلية فيما بين الكتل وفضاءاتها المتكونة بين طياتها او التي يحددها من حيث المحيط الخارحي . وبهذا يصبح الفضاء ضمن نطاق البنية الفضائية لـه الهيمنة المكانية ويمكن تحدد مجالات عمل الكتل من خلاله بحيث تحول الفضاء من السلب الى الايجابات من حيث الهيمنة وخاصة في التكوينات المجسمة ومن خلاله يمكن اعادة تجسيد الواقع التكويني لبنية الشكل المنحوت واصبحت لـه التعبيرات والتأولات الايجابية ضمن المفهوم العام لذلك الشكل . إن البنية التكوينية الفضائية تجعل التعامل مع الفضاء السمة مميزة تؤسس انعكاسات الترابط فيما بينه وبين عناصر التكوين الأخر ضمن خصوصية البنية العامة للتكوين والتي تعكس اثره عليها من خلال الصلة الترابطية مع بعضها البعض وتاثير بعضها بالبعض الأخر وتتيح للنحات قوة وحدة التعبير العام مع الاستجابة لكل الانعكاسات التي يكشفها الوجود الفضائي في هذا النوع .
وضمن السياق العام لهذه البنية التكوينية ( الفضائية ) وتصفح جوانبها التكوينية يصبح لزاما علينا ذكر النحات الانكلزي ( هنري مور Moore ) واشكاله النحتية المنسجمة مع المضمار التكويني الذي يتطلب الهيمنة الفضائية ودلالاتها وتعابيرها الواقعية والرمزية وما تمثله من مفاهيم كما في عمله ( الفن المضطجع ) وكذلك الحال بالنسبة الى عمله ( اشكال داخلية وخارجية ) والتي يعمل بها الفضاء دورا كبيرا في التكوين العام للشكل المنحوت وتداخلاته ومهيمناته على جزيئات العمل وارتباطه مع الفضاء الخارجي المحيط بالكتلة النحتية . ولم يقتصر النحات في اعماله تلك على التعبير الشكلي او التكوين الشكلي للفضاءات في العمل بل كان كل منها لـه تعبيراته ومضامينه المفاهيمية والتي تزيد من المضمون العام للشكل وفكرة العمل أي إن التعبير عن المضمون في الشكل المنحوت لم يقتصر في البنى التكوينية المعاصرة على الكتل بل اصبح للفضاء مردوداته على ذلك المضمون وهو ما تقدم ذكره بتحول الفضاء من السلب الى الايجاب في العمل المنحوت .
4 – البنية التكوينية الاختزالية.
أولى عدد من النحاتين المعاصرين جل اهتمامهم بعملية تشذيب الاشكال واختزال اجزاء من مكوناتها والتركيز الآخر كدلالات تعبيرية أو رمزية توحي الى ذهن المتلقي بفكرة الشكل التام مع اعتماد الأشكال والسطوح التي تحمل المتحولات والتجديدات التي وظفت لهذا الغرض .
تلك هي السمة الرئيسية المنبعثة من البنية التكوينية الاختزالية وتصوير تركيبا جديدا للنظام التكويني الاختزالي بقصدية التجريدات والخروج من التكوين الواقعي اللاشكال . ففي هذا النوع من البنى التكوينية تتشكل انساق الشكل ضمن هيمنة التبسيط المقولب في الأشكال المختزلة والتي تصل في بعض الأحيان الى درجة الرمز , خارج نطاق النظم العلائقية التي تربط العناصر التكوينية لتلك البنية والبنية الاختزالية وبفعل تلك النظم والعلائق تخرج الى حيز التحول المرتبط بالسكون تارة وبالحركة تارة اخرى وقولبتها في شكل كتلي متصف بالثبات .
ويشكل عمل النحات ( برانكوزي Brancusi ) ( طائر في الفضاء ) مثالا واضحا للاختزالية في شكل الطائر والتركيز على ما هو موحي لشكل الطير بالاعتماد على الخطوط والسطوح البسيطة حتى في ملمسها الموحد والنحات هنا لم يعمل على سلب ذلك الطير صفاته الدلالية بل عمل على توحيد تلك الصفات حتى يصل هذا التوحيد الى التوحيد الكلي للكتلة المختزلة . أي إن البنية التكوينية الاختزالية في هذا العمل النحتي اعتمدت من قبل النحات في تمزيق او تحطيم للعلائق والنظم والسياقات لشكل الطير ومن ثم اعادة بنائها ضمن دائرة او امكانية وعي النحات في هذا النطاق او النسق البنائي ضمن حدود البنية التكوينية الاختزالية .
إن تحديد النحات المعاصر لأي نوع من هذه البنى التكوينية النحتية والعمل على ضوئها في انتاج منجزه النحتي الى حيز الوجود , ذلك لا يعني انحصاره وتحديده ضمن دائرة هذه البنية من دون اعتماد دوائر البنى التكوينية الآخرى بل بمقدوره اعتماد اكثر من بنية تكوينية في العمل الواحد بحيث يتلائم بعضها مع بعض وفقا لما يخدم البنية التكوينية العامة للشكل المنحوت . لذا يكون مجال قيام العلائق المتبادلة بين البنى التكوينية النحتية مجال . وارد نظرا لكونها تعمل جميعها لما ينظر عناصر تكوينها وفقا للعلائق المنظمة والمنسجمة تكوينيا والتي تظهر ذلك المنجز النحتي الى المتلقي بما يحمله من القيم الجمالية .
|