تشترك معظم تصاميم الآلوسي بسمة تكوينية واضحة ، سمة قد تكون حاضرة في اكثرية مشاريعه المنفذة والمصممة وهي سمة "التماثلية" ، ما يمنح غالباً تلك المشاريع نكهة كلاسيكية مفرطة، توحي الى ثبوتية إنشائية ورصانة فورماتية عاليتين . وهو كثير ما يطوع اختلاف المادة الانشائية المستخدمة في مبانيه من اجل تكريس نزعة التماثل الذي يسعى إليها لتشكيل مساقط مبانيه وصياغة واجاهاتها. ويضحى قرار" التماثل" اياه بالنسبة اليه، وكأنه قرار تصميمي ملزم، بل وكأنه "مفروض" عليه، بيد انه لا ينفك يتعاطى معه بمودة "تشيها" اساليب تنوع المعالجات التكوينية الموظفة وفنيتها العالية. وتغدو مبانيه " اتحاد نقابات العمال" (1974) المنفذة في مناطق مختلفة بالعراق، و"مشروع المصرف المركزي (1975) في صلالة بعمان، والبنك العربي الافريقي (1977)
و" مطبعة دار القبس" (1978) بالكويت العاصمة، و"البنك العربي"(1978) في مسقط، ، و" سفارة الامارات العربية المتحدة(1979) في عُمان، والسفارة القطرية (1976) في عمان، والسفارة الكويتية في البحرين، ومركز الدراسات المصرفية" (1980) الكويت العاصمة، فضلا عن "مشروع مسجد الدولة الكبير"( 1982) بغداد / العراق، ومركزصلالة الثقافي (1982) في عمان، و"مستشفى البسمة الاهلي" (1989) بالوزيرية ببغداد/ العراق، ومبنى" كمال حمزة" (1979) بالخرطوم / السودان، ومشروع القصر الرئاسي(1995) في برازفيل / الكونغو، وحتى "معمل كندا دراي وسفن آب"( 1978) في دبي، و" خدمات مرسيدس بنز"(1999) في يرفان / ارمينا، وغيرها من المشاريع، تغدو جميعها تمثيلاً لحضور بليغ لتماثليه تلك السمة التكوينية القريبة الى قلب المعمار. لكن التماثلية وان كانت ذات اهمية كبيرة في تكوينات الحل التصميمي المقترح، فانها لم تكن السمة المحتكرة للاهمية كلها ، فالمعمار مهتم ايضاً بتكريس الهندسية: الهندسية المنتظمة، " المروضة" كما وودت ان ادعوها، والتى تحضر هي الاخرى حضورا فصيحاً ،بتوازٍ مع التماثلية، في التكوينات المبتدعة. ثمة اعتناء زائد ايضا في تكريس "النظام" في عمارته إضافة الى تأكيده الفعالية الوظيفية، والحسّ المنطقي في توزيع الفراغات؛ وان تراءى لنا عكس ذلك نظراً لولع المعمار في توظيف معالجات تعبيرية في واجهاته، قد لا تكون توظيفاتها مسوغة وظيفياً على نحو كامل.
تنويعات قوسية
ولئن تعاطى المعمار مع تلك المقومات التكوينية التي أشرنا اليها تواً، بصورة قد تبدو دائمية في غالبية تصاميمه، فإن مهام تنطيق تلك المقومات اختزلها المعمار في مفردة تصميمية واحدة، وهي مفردة شكل "القوس". و"القوس" لدى الآلوسي ليس فقط سطحاً ببعدين، وإنما كتلة بثلاثة ابعاد ايضا. ويوظف المعمار تلك المفردة التكوينية في تكرار مدهش، لكن تنويعات ذلك التكرار لا تقل هي الاخرى إثارة للدهشة. وهو في هذه الحالة لايقصر استخدام شكل القوس الكامل لوحده بل نرى استعمالات متنوعة لإنصافه وأحياناً ربعه. انه يشاهد جلياً في معالجات واجهات مبانيه المتنوعة وفي كتلها، لكنه ايضا يوحى اليه. فالمعمار حريص على تذكيرنا، حضوراً وغياباً، بأهمية المفردة التصميمية التى يتعاطى معها. هل لي في حاجة لتذكير القارئ عن مواقع توظيفات تلك المفردة التكوينية في تصاميم المعمار؟ ذلك لان غالبية مشاريع الآلوسي " تفيض" باستخدامات تلك المفردة، وهو امر يجعلنا ان نتوقف قليلا عندها لتقصي حيثيات ذلك "الاغراق" القوسي في تصاميمه!
يثير الإلحاح والتكرار والتنويع لاستخدام مفردة "القوس" لدى الآلوسي، تساؤلاً مشروعاً عن خلفيات هذا القرار التصميمي، الذي جعل من شكل عمارته لتكون شكلا من اشكال " تنويعات قوسية". فإضافة الى استخدام القوس في غالبية ( جميع) مبانيه وخاصة المصممة ابتداء من السبعينات، نراه حاضراً بقوة ايضا في مشاريع آخرى لم يكتب لها التنفيذ. كما نرى مفردة القوس طاغية في "موتيف" تخطيطات المعمار التي جمعتها " سلمى سمر الدملوجي" واصدرتها في كتاب بعنوان "يوميات بصرية لمعمار عربي :معاذ الآلوسي". ونعتقد ان تفسيرظاهرة تلك المفردة التكوينية وإدراك بواعث توظيفاتها في الحل التكويني، بمقدورهما ان يحددا لنا طبيعة العمارة التى نتعاطى معها: خصوصيتها، وإضافاتها وأهميتها ...و"رسالتها" ايضاً.
في مقدمة كتاب " يوميات بصرية.." ، يشرح "جبرا ابراهيم جبرا " تجربة "معاذ" مع مفردة القوس فيكتب".. وكون هذا الفنان معمارياً عربيا يضفي على الموضوع مغزى خاصاً، فقد اقترن العرب في اذهان الناس اقتراناً وثيقاً بعمارة الاقواس، حتى ليتساءل المرء ألم يكن العرب هم الذين اخترعوها. ولما كان معاذ الآلوسي عراقياً فإنه قد يؤكد ان القوس استعملت لاول مرة بشكل كبير وذي وظيفة بنيوية عند البابليين والآشوريين . .. " " ...ان ثمة ايحاء بقوة عاطفية في الخط الذي يتصاعد من الارض وينحني مع السماء ليسقط ثانية الى الارض. وإذ يتكاثر هذا الشكل، فإن وقعه في الغالب اشبه بالموسيقى التى تملأ الصدر بجذل أو انشراح فجائي يكاد يعجز عنه اي تحليل." (يوميات بصرية لمعمار عربي: معاذ الآلوسي، اعداد وتصميم سلمى سمر الدملوجي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1983، ص 6-7). تبدو كلمات الناقد الفني المعروف، معنية اساساً في تقديم "شرح" لواقع ملموس مشرب بتوظيفات تلك المفردة، برغم انه في مكان آخر من تقديمه الشيق يشير الى اسباب ذلك الاستخدام قائلا: " ... إن انغماسه (انغماس "الآلوسي" خ.س.) في موضوع القوس المعمارية انما هو ضرب من البحث في دخيلة النفس، وتغلغل في أعماق الذاكرة الجمعية- انه ضرب من العودة الى الجذور.". وتوافق معدّة الكتاب "سلمى الدملوجي" "جبرا" في هذة النقطة بالذات، وتكتب ايضا في الكتاب اياه، من "إن هذه الافكار المرسومة تعترف بالحاجة الى التواصل في العمارة العربية بهدف التوصل الى صيغة مترابطة متطورة وجديدة.." وتضيف ".. والى هذا، فإن التحدى الاخير يكمن في التوصل الى المحتوى الوظيفي والجمالي لتكوين معماري يبلغ لغة ابداعية تطغى على تيار التماثل التكراري والتعابير المستعارة المستخدمة في عمارة "المسطرة الهندسية". ويوميات الآلوسي البصرية شاهد على زمان ومسار بحثه وتنقيبه، عبر الخط والشكل واللون والحجوم، عن لغة عربية جديدة." (ص11) . ولكن مع هذا، مع قناعتنا بصوابية مثل تلك الاستنتاجات فإن التساؤل المثير هنا، والمطلوب ايجاد جواب مقنع له يكمن في-: لماذا القوس؟ لماذا هذه المفردة التكوينية تحديدا؟؛ وما مغزى ظهورها الفجائي والسريع في الحل التصميمي ابان فترة زمنية محددة؟
ثمة اسباب عديدة نرى في تواؤم ظهورها بتزامن نادر، قد اسهمت في جعل استخدام القوس وتجلياته المكرره في عمارة الآلوسي، استخداماً مغريا ...و"حداثيا" معا. وفي طبيعة ذلك الاستخدام المشوبة توصيفاته بالتعقيد والتناقض ،تضاف اليه ايضاً رغبة المعمار الجامحة في التقصي عن "ايقونة" بصرية لتأكيد ذاته المصممة؛ يمكن للمرء ان يستشف منهما (اي من طبيعة الاستخدام والرغبة الجامحة) بواعث تؤسس لاجوبة مقنعة لتلك التساؤلات المشروعة. ونرى ان هذه البواعث كمنت في طبيعة عمل المعمار في مكتب "الاستشاري العراقي"، وخصوصية فترة الستينيات، وما رافقها من تغييرات فكرية اثرت الخطاب المعماري، وانعكاس ذلك في الممارسة المعمارية العالمية ، ما افضى لظهور "نماذج" تصميمية (بردمية، بلغة رفعة الجادرجي) في مناطق جغرافية محددة قابلة بسهولة للايحاء .. والاحتذاء ايضاً. وسنحاول إقتفاء، ولو باختصار شديد، أثر جميع تلك الاسباب ونتائجها النافذة، المؤثرة في تكريس ظاهرة حضور القوس بالحلول التصميمية في تجربة "معاذ" المعمارية.
الستينيات وتحولات الذائقة
عندما ترك الآلوسي مكتب "الاستشاري العراقي" في سنة 1974، كانت مفردة "القوس" وقتها تشكل"علامة فارقة" للاعمال المنتجة بالمكتب. فشكل العقد نصف الدائري امست المفردة الاثيرة الصائغة لواجهات المباني ذات الوظائف المختلفة بدءا من دار سكن لعائلة واحدة الى مبنى متعدد الطوابق او حتى لمجمع مبانٍ. لم يقتصر توظيف القوس على الواجهات فقط، فقد كانت حاضرة بقوة ايضا في "انترير" المباني المصممة. تارة نشاهدها معمولة بالآجر، واخرى بالخرسانة او الخشب واحيانا ترسم هيئتها بالمعدن. ومفردة القوس تستخدم بمقاسات مختلفة، لكن استخدامها دوما يتم بتكرارات متنوعة وبكثافة ، يصل احيانا، حتى "الضجيج" البصري، لكنه "ضجيج" متعمد يراد منه تكريس "اميج" العلامة الفارقة التى يتوق المكتب بها تمييز وتميّز مشاريعه.
من، ياترى، "اخترع" او بالاحرى "اعاد اختراع" هذه المفردة التكوينية في المباني المصممة من قبل المكتب، الذي انفرد بشكل لافت في توظيفاتها؟. يعزو الاستاذ رفعة الجادرجي ظهورها في مشاريعه والاهتمام بها تصميمياً الى حديث عابر مع طبيب بغدادي- صديق له. (رفعة الجادرجي، الاخيضر والقصر البلوري ، لندن 1991، ص. 186). لكننا نعرف بان مشاريع المكتب تنجز وفق اسلوب "العمل الجماعي"، الذي يشترك في انجازها معماريون عديدون عملوا وقتذاك في المكتب بضمنهم بالطبع معاذ الآلوسي. نعرف، ايضا، بان توظيف مفردة القوس ظهرت بصورة بليغة و"فجائية" في مشاريع اعدت بدءا من عام 1965؛ وبالتحديد ظهرت واضحة في مجمع مختبرات الطب البيطري (1965)، وفي تصميم دار محمود عثمان في الجادرية بالعام ذاته. قبل هذا التاريخ لم يكن لها اي أثر ملحوظ في مختلف التصاميم المعدة من المكتب، لافي مطلع الستينيات، ولا طبعا، في مشاريع الخمسينيات.
معروف، ايضاً، ان فترة الستينيات (او بالاصح نهابة الخمسينيات- بداية الستينيات) شهدت تحولات عميقة في الذائقة الجمالية ، ما اثرت كثيرا في مسار عمارة الحداثة، وما نجم عنه من إهتمام "مفاجئ" بنماذج العمارة التاريخية. ثمة نزعة بدت واضحة وقتها في الخطاب المعماري العالمي، نادت لإعادة الاعتبار الى "التاريخ"، بالضد من عقود التجاهل والنفي اللذين طبعا مسار عمارة الحداثة بطابع خاص. وهو ما دعا "غيديون" الى الاشارة اليه، كحدث ثقافي مهم، في الاقتباس الذي اوردناه في مطلع دراستنا. وتجلى هذا الاهتمام بظهور "نماذج تصميمية" تسعى وراء " تواشج" ممتع وحتى مقنع، لكنه في كثير من الاحوال مثير للاهتمام، بين اشكال المفردات التكوينية الماضوية مع قيم نهج عمارة الحداثة. وكان لافتاً الظهور القوي لمفردات الطرز التاريخية في صياغة عمارة مباني "مجمع مركز لنكولن " في بدء الستينيات بنيويورك، والذي حظيت تصاميمه باهتمام مهني واسع جراء اشتراك احد اشهر معماري الحداثة، وهو "فيليب جونسون" (1906-2005) في تصميم احدى بناياته وهي "مسرح ولاية نيويورك" (1964) الحافلة لغتها التصميمية بمفردات تكوينات الطرز التاريخية. لكن الحدث الاكثر وقعاً كان الحضور البليغ لمفردة "القوس" واستخدامها كموتيف اساسي في معالجة واجهة مبنى "دار اوبرا متروبولتين" (1962) في المجمع ذاته، المعمار: واليس هاريسون، اذ عّد ذلك الحضور من قبل نقاد كثر، تتويجاً لمقاربات فكرية "جديدة" بدأتها دعوات خجولة لايلاء اهتمام اكثر للتاريخ في العملية التصميمية. وفي وقت متزامن مع "صدمة" لنكولن الماضوية ،او قبيلها بقليل، كان الخطاب المعماري البريطاني يرهص هو الاخر بحدث تصميمي "مميز" و"جديد" لواحد من اشهر معماريي الحداثة الانكليز وهو" السير باسيل سبنس" ( 1907-1976) في مشروعه "لجامعة ساسكس" (1959-63) في مقاطعة "بريتانيا" بانكلترة. والمفاجأة التصميمية، ايضا، ذاتها: الاستخدامات الواسعة لمفردة القوس التاريخي كموضوعة رئيسية في معالجات واجهات مباني الجامعة. (رغم ان كثر من النقاد ربط بين ظهور "ساسكس" ومحاولة "لوكوربوزيه" المفاجئة يومها، والمتعلقة في اسلوب معالجة عمارة "بيوت ياؤول" (1954-56)، في ضواحي العاصمة الفرنسية، حيث تظهر الجدران الاجرية عارية تماما من دون معالجة ما، مستخدما لتسقيف تلك البيوت اشكال أقبية خاصة تعرف "بالقبو الكتالوني" معمولة بصبات خرسانية ذات وجه خشن. وحينها لم يدرك البعض أهمية الحدث المجترح من قبل المعمار الشهير). وبوجود تجارب معمارية آخرى، اشتغلت على "ثيمة" القوس تصميمياً ، بضمنها بالطبع تجربة "فالتر غروبيوس" في "القوس" المهيب لمدخل جامعة بغداد (1957-61)، فقد اكتمل "تأثيث" المشهد المعماري العالمي بمفردات تكوينية "طازجة" مع تهيئته تماما لممارسات تناصية عديدة،سوف يجريها معماريون عديدون في منتصف الستينات، نشدوا التصادي مع جديد ذلك المشهد والاحتذاء به؛ إنطلاقاً من قناعات لرؤية شائعة لدى العديد من المصممين بأهمية "التثاقف" مع الآخر، وتبنيهم مقاربات جمالية ذات حساسية جديدة، تجد إصول مرجعيتها دوماً في ثقافة وعمارة الغرب بامتياز. ولعل هذا ما يفسر لنا "موجة" توظيف شكل القوس، لدى مصممين عديدين عملوا في مناطق جغرافية واثنية متنوعة بضمنها منطقتنا العربية وجدوا في هذه المفردة طاقة تعبيرية كبيرة، بمقدورها ان تمزج النفعي مع الجمالي وان تستحضر بشكلها البسيط والمميّز معاً "طفولة" العمارة التى مارستها الانسانية وهي "تحبو" خطواتها الحضارية الاولى. ومثلما كان استخدام مفردة القوس شائعا في العمارة الاسلامية، كانت يوما ما تشكل "الموتيف" الرئيس في العمارة الرومانية، وفي العمارة البيزنطية ايضا، كما يمكن ان ُترى في عمارة الهند القديمة وفي الصين وطبعا في حضارة العراق القديم وبقية مناطق العالم الاخرى. انها باختصار وليدة الفكر الانشائي غير المحدد بمنطقة جغرافية، ولهذا فان شكلها يحمل رموزاً عديدة. الاطروحة الخاصة
وعودُ على بدء؛ فقد راهن الآلوسي على هذه المفردة التكوينية، مقدراً حمولاتها الدلالية المتنوعة: الانشائية، والجمالية، والوظيفية، فضلا عما تكتنزه من تعبيرية واضحة. وكان رهانه عليها مصيباً ، ليس بذريعة ايحاء غير منصف، بان نشاطه التصميمي هو محض امتداد لحلول تكوينية تم الاشتغال عليها سابقا في مكتب "الاستشاري العراقي". فمثلما كانت مفردة " القوس" حاضرة في تصاميم معماريين آخرين، لم يجد الآلوسي غضاضة مهنية في استخدامها لاحقاً في العديد من تصاميمه بعد ان ترك العمل في المكتب الاستشاري. فالمهم لديه الآن ليس موضوعة القوس لذاتها، وانما كيفية التعاطي معها فنياً وجمالياً؛ لاسيما وهو وجد في واقعة ترك المكتب خيارات متاحة له لتنفيذ اطروحته الخاصة في هذا المجال. هو الذي إعتبر تلك الواقعة بمثابة انعطافة مهمة في حياته المهنية، رغم ان بواعثها ظلت غامضة، لم يفصح عنها بجلاء، محيلاً احياناً ، تبيان أسبابها الى الآخرين من دون ان يتبنى تفسيراً محدداً لها (انظر:مخطوطة درب العمارة). مع ان رفعة الجادرجي يشير بوضوح عن سبب ترك " معاذ" للمكتب "... لانه يريد ان يعمل شيئاً لم تخطه يد رفعة من قبل، وهو في المكتب لا مجال له لهذا." ويضيف الجادرجي في كتابه " الاخيضر.." في انه ( اي "معاذ" خ.س.) مهما قام بعمل ومهما حاول وأبدع، ومهما وصل من نتائج تصميمية كان يعتقد انها بلغت مرحلة مهمة، إذا برفعة يأتي ويلقي نظرة خاطفة على عمله فيحسنه ويطوره بجرة قلم... ما سبب له احباطا مهنيا". (الاخيضر والقصر البلوري، ص. 328). وقد يكون الاستاذ الجادرجي محقا في اطروحته هذه، برغم اننا نجدها متعالية شيئا ما؛ لكننا ايضاً، نفترض ان نقيضها .. لا يخلو هو الآخر من مصداقية. ولست املك اي دليل ملموس يقنع بجواز هذا الافتراض، الا اني اعتقد ان هناك اكثر من دلالة مهنية تسوغه. فعندما يدرك المعمار ان جهده المهني يصطدم مع استحقاقات منظومة تراتبية محض ادارية، قادرة على إلغاء أو تشويه اجتهاده التصميمي؛ يكون خيار ترك المكتب، هو الخيار الوحيد والمتاح بالنسبة اليه. وقد حفظ لنا تاريخ الممارسة المهنية حوادث كثيرة لوقائع ترك المعماريين لدور الخبرة الاستشارية التي عملوا بها، عندما وجدوا انفسهم غير قادرين على المساومة كثيراً فيما يخص قناعاتهم التصميمية، او بدافع الطموح الشخصي. لنتذكر ان "لوكوربوزيه" انفصل لاحقا عن استاذه " اوغست بيريه"، و"رايت" عن معلمه " لوي سوليفان" ، و"يورن اوتزن" عن "الفار آلتو" و" الفار سيزا" عن " يورن اوتزن" و"روبرت فنتوري" عن "لويس كان" و"خوسيه لويس سيرت" عن "لوكوربوزيه" و"زهاء حديد" عن " ريم كولهاس" وفليب جونسون" عن " ميس فان دير رو" و"مارسيل بروير" عن فالتر غروبيوس" و" اوسكار نيماير" عن "لويسيو كوستا" وو.. ومهما يكن من امر، فنحن ازاء واقعة تاريخية، ليس بحكم أهميتها، فذلك متروك لتقييمات نقدية، ولكن بمفهومها التاريخاني، وهي واقعة تأسيس "معاذ" لنفسه مع معماريين اخرين مكتب جديد باسم " الدراسات الفنية" في بيروت/ لبنان ، والذي اضطلع لاحقاً بإعداد تصاميم مشاريع عديدة، كادت ان تكون مفردة القوس، التى اسهبنا كثيرا في الحديث عنها وعن أهميتها في منجز المعمار، لازمة تكوينية، مانحة في الوقت عينه، مجمل قراراته التصميمية خصوصية مميزة، انعكست نتائجها في عمارة مشاريع متنوعة في وظائفها، ومختلفة في مقاساتها وحجومها، ومتباينة في مواقعها الجغرافية.
خصوصية المكان
صمم معاذ في النصف الثاني من السبيعينيات عددا من مباني السفارات التى تعود ملكيتها الى دول عربية ومخصص تشييدها في دول عربية ايضا. مثل السفارة الكويتية(1979) في البحرين، وسفارة قطر (1976) بسلطنة عمان، وسفارة الامارات (1979) في عُمان ايضا.
في عمارة تلك السفارات يسقط المعمار من اهتمامه التصميمي ضرورة تقصي سمات محلية لمبانيه المصممة، بسبب تشابه المرجعية الثقافية لتلك الدول وتماثل خصوصية المكان، ما حدا به ان يميل نحو ابراز المشترك، الجامع لمكونات تلك الثقافة. من هنا بدا اللجوء الى استخدام القوس وتجلياته الفورماتية حلاً مقنعاً وحكيما في آن. في سفارة الامارات بعمان، تظهر القوس وكأنها المفردة الناظمة "لنسيج" جميع احياز المبنى، والصائغة لموضوعة جماليات واجهاته. ثمة روقان معقودان بقبو عاليان، واقعان على جانبي كتلة السفارة، يحصران سبعة عقود اخرى اقل ارتفاعا، هي بالواقع كناية عن واجهة المبنى الرئيسية المتشكلة مفرداتها من حركة ايقاعية احتفالية، يتناوب فيها فراغ العقد مع سطوح الجدار الصماء. استطاع المعمار بمهارة ان يوزع جميع فراغاته في الكتلة الممتدة المحصورة بين ذينك الرواقين، الذينّ هما في الحقيقة ممران/ شارعان يوصلان الى جميع احياز السفارة. استعان المصمم، بصورة لافته، بمنظومة الفناءات الوسطية، لحل اشكالية الانارة والتهوية، واستخدمها ايضا بدافع ضرورات الفصل والوصل بين طبيعة وخصوصية فراغات السفارة المصممة ، فضلا عن توقه الشديد في تأكيد اهمية تلك المنظومة التكوينية لاستحضار"روح المكان" جراء حمولاتها الرمزية، كونها المفردة الشائعة والاثيرة في تطبيقات العمارة الاسلامية. وتعطي اللغة المعمارية المتقشفة المستخدمة في صياغة عمارة المبنى ومفرداتها القليلة المقننة، إضافة الى تفعيل التعارض الناشئ بين أفقية تجزئة الفراغات الوظيفية المتنوعة، مع المعالجة الرأسية المختزلة لسطوح الواجهات، تعطي مبناه مزيداً من الاحساس برصانة العمـارة المصممة وتكسبها كثيراً من الصرحية.
|