|
|
الفنان البولوني كيسلينغ في ضيافة متحف لوديف |
|
|
|
|
تاريخ النشر
24/08/2008 06:00 AM
|
|
|
قليلون هم الأشخاص اليوم الذين يعرفون الفنان البولوني الأصل موييز كيسلينغ (1891 ـ 1953)، على الرغم من شهرته الكبيرة وهو حي كأحد أبرز وجوه "مدرسة باريس". وهذا بالتأكيد ما دفع القيّمين على متحف لوديف (جنوب فرنسا) إلى تخصيص معرضٍ ضخم له يتوق إلى رد اعتبار هذا الفنان عبر كشف خصوصيات مساره الفني المثير. ففي سعيه الثابت إلى بلوغ التقليد الكبير لفن الرسم، يجب أن نعترف له بابتكار جماليةٍ فريدة جمعت بين أشكالٍ مصفّاة وألوانٍ غنيّة وتقنيةٍ عالية في الرسم، وتغذّت من أبرز الميول الحديثة لعصره (التكعيبية والتوحّشية)، ولكن أيضاً من "البدائيين" الفلمنديين والإيطاليين ومن كلاسيكية آنغر ومن أسلوب دوانيي روسو الشعبي. وتجدر الإشارة أولاً إلى أن القاسم المشترك بين فناني "مدرسة باريس" القادمين من أوروبا الشرقية هو إعجابهم المفرط بالعاصمة الفرنسية التي كانت آنذاك محاطة بهالة شبه أسطورية، وبالتالي عزمهم المحموم في سدّ نقصهم واستيعاب جميع الميول الجمالية الجديدة بسرعة فائقة. وفي هذا السياق، يتمايز مسار كيسلينغ عن المسار الذي اتّبعه فنانون مثل مارك شاغال وشاييم سوتين وسيرج بولياكوف. فبخلاف هؤلاء، أتى كيسلينغ من مدينة كراكوفيا التي اشتهرت بتقليدٍ فني طويل ومهم. وفي أكاديمية الفنون الجميلة حيث تعلّم فن الرسم، اكتشف باكراً، على يد أستاذه جوزيف بانكييفيتش الذي كان صديق رونوار وفويلار وبونار، الفن الانطباعي وسيزان، الأمر الذي سمح له بالبقاء على مسافة من التيار الرمزي الذي كان لا يزال طاغياً على الفن البولوني، وبالتأقلم بسرعة داخل محيط مونبارناس لدى وصوله إلى باريس عام 1910. وتشهد على ذلك شبكة العلاقات الواسعة التي نسجها بسرعة مع فنانين بحجم بيكاسو وباسكين وكتّاب بمستوى ماكس جاكوب وأندريه سالمون، ومشاركته في "صالون الخريف" منذ عام 1912. المسألة الأخرى التي تميّز كيسلينغ عن رسّامي المدرسة المذكورة هي خياراته الفنية، كي لا نقول الأيديولوجية. فعلى الرغم من أصوله اليهودية، نلاحظ غياب هذا الموضوع كلياً في جميع أعماله. وبخلاف شاغال أو كيكويين أو ماني¬كاتز، بقيت لوحاته منزّهة من أي إشارة للديانة أو الثقافة اليهوديتين، كما رفض الفنان طوال حياته أن يسمّى باسمه الصغير، موييز أو موسى. ويعكس ذلك رغبته في الاندماج داخل محيطه الجديد وإرادته في ممارسة فنٍّ لا تتقيّد مواضيعه بأي انتماءٍ تقليدي ضيّق، وفي الانخراط داخل لغةٍ فنية شاملة مثل سائر طلائع بداية القرن العشرين. وهذا بالتأكيد ما دفعه إلى اختيار فرنسا المنفتحة على جميع ثقافات العالم كوطنٍ بديل له، وإلى الانخراط في الفرقة الفرنسية الأجنبية (L?gion ?trang?re) طوعاً خلال الحرب العالمية الأولى. لكن رغبته الشديدة في تشييد قدر جديد له لم تحول دون شعوره العميق بعدم الانتماء إلى أي هوية محدَّدة. ففي رسالةٍ وجهها إلى صديقٍ بولوني استقر في البرازيل، كتب كيسلينغ: "أنت بعيداً عن دارك، لكن ماذا ستقول لو كنتَ في حالتي. ففي الولايات المتحدة يعتبروني فناناً بولونياً، وفي بولندا ينظرون إليّ كيهودي، وبين اليهود أُعتبَر فناناً فرنسياً، وبين الفرنسيين ما زلتُ شخصاً دخيلاً". على المستوى الفني، يظهر في أعماله الباريسية الأولى تأثّره الكبير بسيزان من خلال طريقة تشييده للفضاء التي لا تحفظ سوى الخطوط الأساسية وتستحضر الأشكال في بساطة أحجامها، كما نلاحظ تأثّره بمجموعة "الأنبياء" (les Nabis) المتجلّي في الإلغاء الجذري للمنظور الذي يؤدي إلى "هرس" الأشياء المرسومة على سطح اللوحة. بين عامَي 1912 و1913، استقر الفنان في مدينة سيري قرب بيكاسو وجوان غري وماكس جاكوب، فرسم مناظر طبيعية تتميّز بتمثيل "سيزاني" للفضاء قائم على اختزال الأحجام بأشكالها الهندسية. وبخلاف أصدقائه التكعيبيين، رفض في عمله إحلال قطيعة مع الواقع، مع أنه قاد اختباراتٍ مثيرة ترتكز على تفكيك الفضاء وتفجير الأشكال، كما يشهد على ذلك عددٌ من البورتريهات ومن اللوحات التي خصّصها للطبيعة الجامدة. لكن أعمال هذه الحقبة تتميّز بتقشّفٍ في استخدام الألوان أرسته المدرسة التكعيبية. وعلى الرغم من مثابرته على هذا الأسلوب الظاهرة في اللوحات التي حققها خلال سفره إلى أسبانيا عام 1915، لكنه رفض الاختيار بين الشكل واللون وابتعد نهائياً عن النظريات التكعيبية فور عودته إلى فرنسا. فبعد تسريحه من الجيش بسبب إصابته خلال الحرب، استقرّ في مقاطعة بروفانس (جنوب فرنسا) واكتشف بحماسة كبيرة منطقة سان تروبي التي شعر فيها بالحاجة إلى تحرير ألوانه وتشييد فضاء لوحاته بصورةٍ دقيقة وتبسيط خطوطه التي أمست واضحة جداً، مقترباً بذلك من الأسلوب الشعبي (na?f). انطلاقاً من العشرينات، اتّبع كيسلينغ مقاربة شديدة الواقعية(hyperr?aliste) بدون التخلي عن طريقة تشكيله المعقّدة التي يمكن ملاحظتها في المناظر التي حققها لمرافئ سان تروبي ومرسيليا وأمستردام بين الحربين العالميتين. وتتميّز أعمال هذه الحقبة بمادّة ملساء وبرّاقة وبسلّم ألوانٍ زاهية وبتركيز الفنان على موضوعَي البورتريه والعري النسائي. وفي هذه الأعمال يظهر تأثّره بمراجع كثيرة من الفن القديم، كالفن البدائي الفلمندي وفن عصر النهضة الإيطالية والأسلوب التكلّفي الفلورنسي، وتطويره واقعية دقيقة ومرهفة تقترب من الواقعية السحرية بشخصياتها الجامدة ومناخاتها الصامتة وأضوائها الشفّافة. ومع انطلاق الحرب العالمية الثانية، اضطُّر كيسلينغ إلى مغادرة فرنسا نظراً إلى انتقاده العلني للنازية، فاستقر في البرتغال ثم في الولايات المتحدة، قبل أن يعود إلى باريس عام 1946 حيث ثابر على الرسم بالأسلوب الكلاسيكي الجديد الذي كان قد ابتكره قبل عقدين والذي تكمن خصوصيته في طابعه البدائي والتزييني معاً، وفي قوة أشكاله المبسَّطة التي تقود النظر مباشرةً نحو الجوهري. باريس ـ أنطوان جوكي
|
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ انطوان جوكي
|
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| |
|
|
|
|
|