قصائد ملتاعة كتبها الجوع والاضطراب والمرض
لقد اقبل السياب علي المذاهب السياسية فقرأ الماركسية وارتبط بالماركسيين عدة سنوات ، ثم انفصل عنهم انفصالا مدويا وارتبط بالاتجاهات السياسية التي تؤمن بالوحدة العربية والقومية العربية. وكتب سلسلة من المقالات في بداية الستينات من القرن الماضي بعنوان( كنت شيوعيا) نشرتها له جريدة ( بغداد) الا انه لم يكن منتمكيا الي أي حزب من الاحزاب القومية. فكتب عددا من روائع قصائده عن الجزائر وفلسطين وبورسعيد.
ففي يوم 24 كانون الاول عام 1964 غيب الموت هذا الشاعر الكبير في احدي مستشفيات مدينة الكويت. مات غريبا عن عن قريته الصغيرة ( جيكور) بمدينة البصرة ، هذه القرية التي عشقها واحال كل ذرة من ترابها الي شعر رائع، وكان دائما يحملها في قلبه اينما ذهب ، ولا يجد للحياة معني او للسعادة بعيدا عنها.رحل بعد ان تألم كما لم يتألم أحد، لقد كان يعاني آلام المرض العنيف الذي سكن جسده ولم يبرحه زلكنه مع ذلك كان يحس بالامل وكان يحتمل في صبر كل جراحه وكان يقول في شاعرية جميلة اصيلة مخاطبا ربه،آملا في ان يعود من مستشفي لندن الي قريته ( جيكور) وقد تغلب علي مرضه:
لانه منك حاو عندي المرض/ حاشا، فلست علي ما شئت اعترض/ والمال؟ رزق سيأتي منك موفور/هيهات ان يذكر الموتي وقد نهضوا/ من رقدة الموت كم مص الدماء بها دود/ ومد بساط الثلج ديجور/ اني سأشفي ، سأنسي كل ما جرحاقلبي/ وعري عظامي فهي راعشة والليل مقرور وسوف أمشي الي جيكور ذات ضحي
وصية من محتضر ولكن لسوء حظ السياب وحظ الثقافة العراقية خاصة والعربية عامة لم يحصل علي الشفاء فمات بعد ان عاني كثيرا من الالام المرة وبذلك فقد العراق والامة العربية شاعرا كبيرا قدم لها الكثير وكان قادرا علي ان يقدم المزيد من شعره الخصب لولا ارادة الله وذلك المرض الذي قضي عليه. ففي قصيدة كتبها في اوائل عام 1963 أي قبل موته بعام تقريبا عنوانها( وصية من محتضر) يقول فيها:
انا قد اموت غدا فان الداء يقرض غير وان/ حبلا يشد الي الحياة حطام جسم مثل دار /نخرت جوانبها الرياح وسقفها سيل القطار لقد بدأ السياب حياته الشعرية عام 1948 وكانت مرحلته الشعرية الاولي ممثلة في ديوانين هما (أساطير) و( أزهار ذابلة) ففي هذه المرحلة من حياته الشعرية بدا السياب شاعرا رومانسيا غارقا في الرومانسية، كان يعيش في عالم خيالي مليء بالضباب ويعبر عن حزن عميق غامض ويقترب من عينيه ، وكان من الطبيعي ان يبدأ السياب هذه البداية الرومانسية الغامضة ، لانه لم يكن قد عرف طريقه بعد، ولان الشعر العربي في تلك المرحلة كانت تغلب عليه الروح الرومانسية الحزينة الغامضة. في تلك المرحلة كانت الرومانسية تقذف الحياة تلادبية بآخر موجاتها، لقد كان الشعراء الرومانسيون يشعرون بالاختناق ويرون العالم مظلما لا معني له ويحسون ان في الحياة تعقيدا هائلا غير مفهوم، وقد انعكس هذا الموقف علي نتاجات هذه المدرسة الرومانسية وعلي سلوك بعض الشعراء ايضا. ومن هنا نري تلك الروح الرومانسية في شعر السياب بكل ما في هذه الروح من خيالات واوهام وهروب من الواقع وذلك حينما نقرأ له هذه الابيات من قصيدة له بعنوان( اقداح واحلام) التي كتبها عام 1946 أي في مرحلته الرومانسية الاولي والتي يقول فيها:
انا ما ازال وفي يدي قدحي/ ياليل أين تفرق الشرب؟/ ما زلت أشربها وأشربها/ حتي ترنح افقك الرحب/ الشرق عفر بالضباب فما/ يبدو فأين سناك يا غرب/ ما للنجوم، غرقن من سأم في ضوئهن ، وكادت الشهب/ أنا ما أزال وفي يدي قدحي / ياليل أين تفرق الشرب؟ كان الوطن العربي يعوم في بحر من اليأس ، وكانت قمة هذا اليأس تتمثل في مأساة فلسطين عام 1948 التي عاشها السياب في بداية حياته حيث كان غارقا في الاحزان والخيالات الرومانسية الغامضة اليائسةوحيث كان يكتب بالروح نفسها التي عاشها العرب فاتاحت للشاعر فرصة ذهبية لكي يكسر قيود الرومانسية وينطلق الي عالم آخر تتألق فيه عبقريته دون تقليد للاخرين، ففي العراق كان الشعب يقاوم معاهدة صالح جبر مع الانكليز واسقطها . فاشترك الشاعر السياب الذي ما زال شابا في المقاومة والمظاهرات والمؤتمرات الشعبية وكتب القصائد ضد تلك المعاهدة. ومنذ تلك الفترة بأ وعي الشاعر السياب يتفتح علي شيء جديد في داخله. وبدأ ينفصل تدريجيا عن الرومانسية ويزداد احساسا بالمأساة خاصة وانه يحمل في وجدانه وعقله صورا مؤلمة لهذه المأساة عن قريته( جيكور) بالبصرة. وهنا اتيح له ان يصبح واحدا من اعظم رواد الشعر العربي الحديث ، وواحدا من اعظم الشعراء العرب .
لقد ساعد السياب علي الوصول الي هذا المساوي من النضج الشعري حساسيته الشديدة فهو شديد التأثر بقراءاته وتجاربه في الحياة . فقد قرأ الكثير في الادب العالمي والثقافة العالمية، كما انه قرأ لكبار الشعراء المعاصرين قراءة جيدة اصيلة عن طريق اللغة الانكليزية التي كان يجيدها اجادة تامة. فقد قرأ لاليوت ولوركا واديث سيتويل وأودن وغيرهم من الشعراء المعروفين. كما انه درس دراسة عميقة للكتب الدينية واستفاد من القصص الدينية ويندر ان تخلو قصيدة له من الاستعانة بهذه القصص في بناء شعره وفي التعبير عن تجاربه وعواطفه.
فقد استعان بقصة أيوب لانها تشبه في كثير من الوجوه تجربته الخاصة، حيث ابتلته الاقدار بمرض قاس أليم كما ابتلت أيوب، وكان عليه ان يصبر ويتحمل كما صبر أيوب واحتمل تعبيرا عن قوة ايمانه . ففي قصيدته ( سفر أيوب) في ديوانه( منزل الاقنان) تعبير عن هذه التجربة التي جعلت منه ايوبا معاصرا حيث كان يعالج في لندن. ففي هذه القصيدة يقول:
يا رب أيوب قد اعيا به الداء/ في غربة دونما مال ولا سكن/ يدعوك في الدجن/ يدعوك في/ ظلموت الموت أعباء /ناء الفؤاد بها فارحمه ان هتفا/ يا منجيا فلك توح مزق السدفا/ عني. اعدني الي داري الي وطني ويقول السياب ايضا:
لك الحمد مهما استطال البلاء/ ومهما استبد الالم/ لك الحمد ان الرزايا عطاء/ وان المصيبات بعض الكرم/ ألم تعطني أنت هذا الظلام/ واعطيتني أنت هذا السحر/ فهل تشكر الارض قطر المطر؟/ وتغضب ام لم تجدها الغمام؟/ شهور طوال وهذي الجراح/ ولا يهدأ الداء عند الصباح ولا يمسح الليل اوجاعه بالردي/ ولكن أيوب ان صاح صاح:/ " لك الحمد ، ان الرزايا ندي وان الجراح هدايا الحبيب/ اضم الي الصدر باقاتها، /هداياك في خافقي لا تغيب هداياك مقبولة . هاتها" كما ان السياب قاريء للاساطير البابلية والاشورية واليونانية ، وهذه الثقافة الواسعة التي يتمتع بها السياب سواء من دراسته للاديان بقصصها وتاريخها او للاساطير البابلية والاغريقية هي التي منحته نظرة شاملة عميقة متنوعة بصورة لامثيل لها في شعر شاعر من الشعراء المعاصرين للسياب. فهو لم يكتف بهذه الثقافات الانسانية التي استوعبها بعد ان احبها حبا عميقا رائعا. فهو بطبيعة تكوينه نهم الي معرفة العالم الخارجي ويريد ان يفهمه ويعرف مجراه واسراره العميقة ، ولا يستطيع ان يكون منعزلا كأي صانع يعمل بلا عاطفة في اتمام مصنوعاته. كما انه من اكثر الشعراء العراقيين معرفة بالفولكلور الشعبي حيث يستخدمه كعنصر اساس من عناصر بناء قصائده . ففي قصيدته( مدينة بلا مطر) نجد استخداما دقيقا وبديعا لاسطورة( تموز) اله الخصب من شخصيات الاساطير البابلية القديمة المعروفة .حيث تتحدث القصيدة عن المدينة التي تخلي عنها ( تموز) فجف فيها كل شيء ولم يعد فيها لا مطر ولا زرع. ولم يعد فيها سوي الجفاف والجوع واهل القرية يتضرعوت لتموز وزوجته ( عشتار) حيث يقول السياب في قصيدته: وسار صغار بابل يحملون سلال صبار وفاكهة من الفخار، قربانا لعشتار ويشعل خاطف البرق بظل من ظلال الماء والخضراء والنار وجوههم المدورة الصغيرة وهي تستسقي فيوشك ان يفتح- وهي تومض - حقل نور ورف- كأن الف فلااشة نثرت علي الافق- نشيدهم الصغير: قبور اخوتنا تنادينا وتبحث عنك ايدينا لان الخوف ملء قلوبنا، ورياح آذار تهز مهودنا فنخاف . الاصوات تدعونا جياع نحن مرتجفون في الظلمة ونبحث عن يد في الليل تطعمنا، تغطينا.
شاعر الاساطير هكذا كان السياب يستخدم الاساطير البابلية في اصالة فنية عميقة وواضحة وبنفس القوة والقدرة بستخدم الاساطير اليونانية. والقصص الدينية.
ففي قصيدته ( رؤيا في عام 1956) يستغل الاسطورة اليونانية عن ( جنيميد) او( غنيميد) الراعي اليوناني الشاب الذي وقع في حبه ( زيوس) كبير الهة الاولمب الاغريقي. فارسل صقرا اختطفه وطار به اليه. اذ يقول السياب:
ايها الصقر الالهي الغريب/ ايها المنقض من اولمب في صمت المساء / رافعا روحي لاطباق السماء /رافعا روحي - غنيميدا جريحا/ صالبا عيني - تموزا مسيحا/ ايها الصقر الالهي ترفق ان روحي تتمزق/ انها عادت هشيما يوم ان امسيت ريحا كان السياب عموما من اقدر الشعراء علي المزج بين الرؤية الواقعية والرؤية النفسية معا. انه استطاع ان يتحدث عن تجربة المواطن ، تجربة انسانية عامة في العراق، فتبدو تجربة هذا المواطن انسانية عامة يمكن ان يحسها الانسان في أي مكان. وهذه القدرة الفنية هي اثمن ما يمكن ان يمتلكه الشاعر السياب ليعبر عن تجاربه الانسانية.
|