أما كيف خطرت الفكرة له، فيقول رفعت الجادرجي، كانت شوارع مدينة بغداد آنذاك تغص بالمتظاهرين الرافعين اللافتات بجميع أشكالها و ألوانها. و « تساءلت: لِمَ لا يكون التصميم على شكل لافتة جميلة بدلاً من هذه اللافتات القبيحة المرفوعة الآن؟ لافتة جميلة و تكون باقية، و «خالدة» حسب قولهم... فقررت أن يبلغ ارتفاع اللافتة عشرة أمتار و يكون ارتفاعها عن مستوى الأرض ستة أمتار، و طولها اثنان وخمسون متراً، تملأ هذه اللافتة بأشكال برونزية تمثل يوم 14 تموز، و لتكن بديلاً عما يملأ شوارع العاصمة الآن... و عرضت على قاسم رسماً لنصب 14 تموز، و لم يكن أكثر من تخطيط كبير لجدار مرتفع... و قد بينت له أن هذا السطح سيحتوي على نحت ناتئ يمثل الثورة، فوافق على الفكرة من غير مناقشة...»
و من ثم فاتح رفعت الجادرجي جواد سليم بالموضوع و عرض عليه التصاميم المعمارية الأولية، و طلب منه ملأها بنحت برونزي. و تقسيم الجدارية إلى ثلاثة أقسام:« قبل الثورة، يوم الثورة، و بعد الثورة، على أن يبرز الجيش في قسم يوم الثورة و أن يتوسط النصب. أما قبل الثورة فيرمز إلى التهيؤ لها، و أما بعدها فيرمز إلى الازدهار المتوقع في الصناعة و الزراعة... تأمل (جواد) قليلاً و بان عليه الفرح و قال: إن هذه أعظم فرصة في حياته و إن هذا العمل سيجعلنا نرتبط بالآشوريين و انه سيكون أكبر عمل في العراق لمدة طويلة... و اقترحت عليه أن يبتدئ تسلسل النصب من اليمين إلى اليسار، أي أن تكون رموز ما قبل الثورة في اليمين و ما بعدها في اليسار لأن اللغة العربية تكتب من اليمين إلى اليسار، فاستحسن ذلك.»
تكونت لجنة للأنصبة التذكارية برئاسة رفعت الجادرجي و حسن رفعت الذي كان وكيل وزارة الإسكان آنذاك، و سافر جواد سليم إلى فلورنسا للقيام بتنفيذ العمل بعد أن وافق عبد الكريم قاسم في اجتماع خاطف عرضت عليه مبادئ التصاميم من قبل رفعت الجادرجي، و لم يقابل جواد سليم عبد الكريم قاسم، إذ كانت جميع الاتصالات تحدث بين رفعت و عبد الكريم قاسم في جميع المناسبات المتعلقة بالنصب. و لم يستطع جواد أن ينجز في تلك الفترة القصيرة، بعد مرور عام على الثورة، إلا تمثالاً واحداً و هو تمثال الفتاة التي تمثل «الحرية».
و كتب رفعت الجادرجي بهذه المناسبة كتيباً صغيراً عن النصب، بحث فيه النقاط الرئيسة التي تتعلق بفحوى النصب، و رمزيته، و هو الكتيب الذي وزع على الحاضرين أثناء الاحتفال. و قام جبرا إبراهيم جبرا ببعض التعديلات اللغوية، كما وافق على طلب رفعت في أن يصدر الكتيب باسمه، و ألا يذكر اسم رفعت في الكتيب، لأنه يرغب في أن يتفادى مقابلة عبد الكريم قاسم في الوقت الحاضر، خشية من طلبه تغيير في نصب 14 تموز.
و لكن بعد بضعة أشهر من افتتاح القسم الوسطي من النصب، عرض رفعت على عبد الكريم قاسم بناء على طلب هذا الأخير، صورة فوتوغرافية بطول مترين و بارتفاع سبعين سنتيمتراً، بعثها جواد سليم من فلورنسا إلى رفعت. و شرح رفعة لعبد الكريم قاسم الفكرة التي صمم على أساسها النصب، و ما يرمز كل قسم منه، و ما سيكون شكله النهائي. و بعد أن تأمل «قاسم» الصورة الفوتوغرافية، قال لرفعة: «هذا النصب جيد و لكنه لا يمثل ثورة 14 تموز بالذات، انه قد يكون نصباً رومانياً أو نصباً في أي مكان آخر»، و هذا ما كان رفعتيتجنبه، خاصة بعد أن أصبح الزعيم يشار إليه بـ»الأوحد»، و الجماهير تهتف باسمه ليل نهار، فكيف بنصب بهذا الحجم يكون خالياً من تمثال «الزعيم الأوحد»؟ لذا أراد أن يكون تمثاله في منتصف النصب! و في هذه المحنة التي كان يمرّ بها رفعت، تبرع النحات خالد الرحال و أبدى استعداده لنحت صورة لعبد الكريم قاسم في النصب.
سافر رفعت إلى فلورنسا، ليضع حداً «للنغمة الجديدة الخاصة بإضافة صورة شخصية إلى نصب فني». و بلّغ جواد أن يكمل العمل كما هو مخطط – و هذه التفاصيل مذكورة في الكتاب المشار إليه أعلاه - ارتاح جواد بعد اللقاء و استمر في العمل. و هنا يتعين أن نؤكد ان كل ما جاء في المنحوتات الجدارية كان من تصميم جواد سليم.
و لكن عادت الشائعات ثانية، عندما علم جواد من خالد الرحال أن النصب سيرفض من قبل عبد الكريم قاسم و انه سيكلف بهذه المهمة بدله، ارتبك جواد خاصة و إن السفارة العراقية في روما لم تتعاون معه آنذاك، و على أثر ذلك أصيب جواد بانهيار عصبي أدى إلى دخوله مستشفى الأمراض العقلية. الأمر الذي دفع برفعت إلى السفر حالاً ثانية إلى فلورنسا، و كنت معه هذه المرة، و ذهبنا إلى المستشفى بصحبة زوجته لورنا و محمد غني حكمت. و أخرجه رفعت من المستشفى بعد تقديم تعهد بأنه المسؤول عنه، خرج جواد ليكمل ما تبقى من صب تماثيل النصب.
و وصلت التماثيل إلى بغداد، و بدأ نصبها، حيث نقل رفعت الجادرجي محل عمله إلى نصب 14 تموز. و كان جواد مشرفاً معه على فتح الصناديق التي وصلت من ايطاليا، وصفت المنحوتات على الأرض. و قبل المباشرة باللحم و الرفع و التثبيت، أصيب جواد بنوبة قلبية نقل على أثرها إلى المستشفى و توفي بعد عشرة أيام، و لم يرَ المنحوتات مرفوعة على النصب، و قام رفعت بتكملة العمل.
و عاد الكلام على وضع نحت لصورة عبد الكريم قاسم، و أدى النحات خالد الرحال دوراً بعيداً عن الأخلاق المهنية، إذ كان من المفترض أن يكون مدافعاً عما تركه رفيق له في المهنة، و هو عمل من أهم ما أنتج من فن في القرن العشرين في العراق، و ليس إثارة ضجة ربما كانت ستؤدي إلى نسف النصب و تدميره لو وضعت منحوتة لعبد الكريم قاسم في النصب. و هذا ما حاول أن يقوم به البعض بعد انقلاب 8 شباط 1963. و باستطاعة القارئ أن يطلع على تفاصيل إنقاذ النصب في كتاب «الاخيضر و القصر البلوري». و عن نجاح رفعت في عدم الرضوخ لطلب عبد الكريم قاسم في وضع تمثاله في النصب.
و عندما علم رفعت أن النصب في خطر و ربما يهدم من قبل السلطة الجديدة بعد انقلاب 8 شباط، للتخلص من كل ما له علاقة بعهد عبد الكريم قاسم، اتصل رفعت بالدكتور محمد مكية، الذي قام بدوره بتقديم احتجاج شديد اللهجة إلى أمين العاصمة، ما أدى إلى التراجع عن الفكرة و إنقاذ النصب.
_____________
1- (الأخيضر و القصر البلوري) رفعت الجادرجي، دار الريس للكتب و النشر، لندن 1991، ص94-95
2- - المصدر نفسه، ص 99- 101
3-و على خلفية هذا الكتيب، كتب جبرا إبراهيم جبرا كتاباً مفصلاً عن «نصب 14 تموز»، بعنوان: «نصب الحرية»، و أصبح هو المرجع بالنسبة إلى الكتّاب الذين يكتبون عن النصب. (ب.ش)
4- التفاصيل في كتاب (الأخيضر و القصر البلوري) حول الدور الذي قام به كل من إحسان شيرزاد و لورنا سليم و محمد غني حكمت و فاضل ألبياتي و عبد الأمير أحمد و غيرهم