... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله Bookmark and Share

 

  محور النقد

   
سر الفن في نصب الحرية

ياسين النصير

تاريخ النشر       26/08/2007 06:00 AM


 يبقي نصب الحرية من الشواهد الفنية الذي يحتاج في كل مرحلة من مراحل الحياة الثقافية العراقية قراءة جديدة له، فهو ليس نصباً صمم ليوضع في ساحة التحرير ــ قلب بغداد ــ لمجرد ظاهرة تزينية وجمالية وجدت الحاجة إليها فقط، بل هو جزء من مكونات الثقافة المعاصرة وصلت عن طريق النحت وعلي يد فنان عالمي هو جواد سليم إلي نضجها لتقترن هذه الثقافة المتقدمة بنهضة سياسية واجتماعية في عموم منطقة الشرق الأوسط يوم ذاك في ما أحدثته ثورة تموز (يوليو) 1958 من تغيير جذري علي مجمل الحياة العراقية. لذا فالنصب وجد ليقرأ قراءات مختلفة كلما مر علي العراق زمن ما من التقدم والارتكاس. فعندما نصب في عام 1962 في الساحة ولم يشاهده مصممه الفنان جواد سليم حيث توفي في العام نفسه بقي النصب مجردا من حضور مصممه، وناقص الدلالة، عندما لا يكون قد اكتمل وهو حي. فمثل هذه المناسبات يصعد إلي مستوي المعرفة الفنية والجمالية الفنان ونتاجه معاً، ولم يعوضه ذلك الرهط الكبير من الفنانين والسياسيين والمصممين الذين حضروا مراسم الاحتفال ومن ثم فتح المجال للدعاء بأنهم أكملوه واختاروا له الموقع و... وبقي النصب تتداوله الألسن والادعاءات والكتابات، حتي بدأ التشكيك بقيمته الفنية بعد انقلاب شباط (فبراير) عام 1963 والدعوة لإلغائه.
 
 ثم بدأ النصب يعايش بعد ذلك كل التحولات السياسية والثقافية في العراق، وكأنه جزء من الذاكرة العراقية الجمعية تلك التي تصعد بصعود التيار التقدمي وتنتكس بانتكاسته. ومن عايش ساحة التحرير ونصب الحرية في زمن ما بعد (انقلاب شباط) يراهما وكأنهما يعيشان الحال الشعبية ذاتها:
 ظلمة وسرقات وبنادق وخوف ووحشة وحرس مدججون وملاحقات. حالات تنبئ عن خراب سياسي كبير، ومواقف كان الفن كل الفن العراقي يحتج عليها ويدينها. فبدت ساحة التحرير ونصبها وكأنها ساحة من ساحات برلين أيام الحرب العالمية الثانية، لم يبق فيها إلا شواهدها التاريخية التي تشهد علي موت الحياة وهجوم جراد السلطات علي مرابعها. ولم يجد النصب والساحة اهتماما يليق بهما إلا في أوائل السبعينيات عندما بدأت الحياة السياسية تميل إلي الهدوء والاستقرار.
 فظهرت دراسات جادة عن النصب دون الساحة، وفهم النصب فهما فنيا معاصرا وإن لم يكن الفهم متكاملا بعد. ثم انكفأ النصب ثانية، وانكفأت القراءات عنه عندما بدأت رياح الحروب المدمرة تهب علي العراق ثانية لتدخله في دوامة العنف الدموي. مما أدي بالعراق كله وليس أنصابه وفنونه وثقافته فقط لان يكون في ركب العالم المتأخر. ما دفعني للكتابة الآن عن نصب الحرية جملة أسباب منها:
لقد نفذ النصب بقرار من قبل الزعيم عبد الكريم قاسم، وجهد الفنان جواد سليم طوال سنوات في العراق وفي إيطاليا علي تنفيذه وفق ما يراه هو لا وفق ما يراه رئيس دولة وسياسي.
 وعندما اكتمل النصب بمعزل عن ما حدث في العراق خلال سنوات الإعداد والعمل، نجد النصب لم يتغير تبعا للتغيير الذي حدث علي أرض الواقع، بل بقي محافظا علي ما خطط الفنان له لا وفق القرار الذي صدر ولا وفق الوضع السياسي الذي كان قائما في أوائل الستينيات.. مما يعني أن النصب حينما أقيم في ساحة التحرير عام 1962 وشيد في موقع درس جيدا من قبل النقد الفني له، لم يبق حبيس ذلك القرار ولا مستعدا لأن يكون منسجما والوضع السياسي المضطرب في هذا العام، وهذا يعني أن النصب حمل أولا وأخيرا رؤية الفنان وتمرده وخصوصيته ونفذ بطريقة جمالية مغايرة لكل ما تعلق به سابقا. وهذه النقطة لوحدها تجعل أي دراسة لاحقة للنصب لا بد لها ان تعتمد مفهوم حركة الرؤية والمصطلحات عندما تعالج نصا أنتج ونصب في زمن، وفهم في ضوء نظريات نقدية جديدة في زمن آخر. فنحن نعتقد أن نقد الأستاذ المرحوم جبرا إبراهيم جبرا عندما كتب كتابه عن نصب الحرية، لم يخل من تأثير سياسي كان قائما في بداية السبعينيات، ويجد القارئ الكثير من التفسيرات الثانوية قد تسربت إلي رؤية الناقد في هذا الصدد.
 
 ومجملها أن هذه النصب وغيرها هي نتاج فنانين بمعزل عن حركة الواقع. فما كتبه الفنان عباس الصراف (جواد سليم) 1972 وما كتبه جبرا إبراهيم جبرا (جواد سليم ونصب الحرية) 1974 لا يستوفيان ثقافيا حق النصب وثقافته وعمقه وصلته بالشعب وبالفن. فقد قيلت فيه آراء هي من صلب تفسيرات النقاد لحياة وأعمال الفنان الأخري. وقد كشف جبرا بحسه النقدي صفحات مثيرة في حياة جواد سليم خاصة فيما يتعلق بمذكراته ويومياته ورسومه قبل وبعد النصب، والتي أعطت انطباعا أن النصب لم يكن رغبة أحد المسؤولين، إنما هو جنين كامن في كل أعمال وحياة الفنان جواد سليم، ورغم هذه النتيجة التي أكدها الأستاذ جبرا في تفسيراته لوحدات النصب تجزيئا ومقتصدا. فالرؤية النقدية تحمل شيئا من مواقف الناقد، حتي تلك الآراء غير المعلنة. و إلا لم يكن ثمة نقد يقال ولا يشوبه الخلل. ولكن هذه الرؤية النقدية قد أغلقت الباب علي نفسها عندما جعلت مفردات النصب خاصة بزمن وبمرحلة وبقضية دلت عليها رموز النصب. لقد وضعت الكثير من المفردات الثقافية في سياق النقد الاجتماعي ــ السياسي مما أضعف الجمالية والفنية ليس للنصب فقط بل مجمل الحركة الفنية، وهي بالضرورة ليست مغايرة للاجتماعي والسياسي عندما يغتني بتلك المفردات لاستيضاح أبعاده، ولكنها ليست موظفة أولا وأخيرا لمثل هذه الأغراض وإن نبعت منها. فعندما يتغير مفهوم ودور العامل والفلاح والجندي سياسيا واجتماعيا، يتحول مفهومهم القديم إلي نقطة ضعف في التنفيذ الفني المعاصر.
 وعندما يتغير مفهوم الحصان والثور والزرع والباكية والسجين وغيرها مرحلياً وتقنيا وسياسيا ورمزيا يعني أن ذلك النصب قد افرغ من محتواه. فالنقد الذي يحصر مفرداته في سياقات خارجية ومفهومات اجتماعية قابلة للتغيير والمداورة يخسر من قيمه الكثير عندما لا يري تلك المفردات ضمن حركتها الكلية والشاملة في الثقافة والفن.. فهذا النصب الشاهد هو أحد أهم الأنصاب في العالم العربي، إن لم نقل من النصب المهمة في العالم أيضاً. ولكن نقدنا بقي حبيس أطر تلك المفهومات النقدية القديمة عنه من أنه رمز للثورة وطاقة تعبيرية عن ماضي وتراث العراق. فالنقد الفني اليوم بدأ يغير من طرق رؤيته للفن وخاصة النصب واللوحة التشكيلية فجعل من محاورة الفنون طريقة نقدية حديثة كلما استجدت مفرداته تجعل من إمكانية التأويل والإحالات والتفكيك وتحليل عناصر الإنشاء طريقة تكشف مكونات جديدة في الفنون لم تكن مهيأة سابقا للنظريات النقدية. وفي محاولتنا هذه لا ندعي أننا سنأتي بجديد كليا، كما لا نرفض مسبقا ما توصلت إليه الدراسات المهمة السابقة، ولكنها طريقة أخري ومغايرة بعض الشيء لما قرأناه سابقا في رؤية نصب الحرية. وتبقي في كل الأحوال محاولة قراءة ليست إلا.
لذا يمكن دراسة نصب الحرية من خلال ثلاث طرق:
الطريقة الأولي لدراسة نصب الحرية هي أن تدرس محتوياته التكوينية كلها. وفي نصب الحرية ثمة أربع عشرة قطعة أو مفردة فنية وهذه المفردات تحتاج إلي فهم جدلي خاص لما تحتويه كل مفردة، أولاً ثم لموقعها ضمن التكوين الكلي للنصب ثانياً. فليس بالضرورة أن تؤدي المفردة الأولي للثانية، والثانية للثالثة، وهكذا إلي نهاية مفردات النصب وهذا ما فعله الأستاذ جبرا، في دراسته عن جواد سليم. فقد تكون قطعة واحدة منه هي التي ولدت كل القطع الأخري فتكون ما يسمي بالبؤرة، وقد تكون البؤرة من قطع عدة. كما أنه ليس شرطا أن تكون البؤرة في موقع معين من النص فقد تكون هذه البؤرة في الوسط أو في البداية أو في النهاية، وقد يحتوي النصب أكثر من بؤرة مولدة فيه. لذا لا يدرس النصب وفق السياق الحكائي القديم، بداية ــ وسط ــ نهاية. بل يدرس ضمن بؤره المولدة.. وقراءة أولي نجد أن النصب يتألف من ثلاث بؤر أساسية: البؤرة الأولي هي الجندي الذي يقع في وسط النصب تماما وهو يفتح باب السجن ــ العراق ــ ومن موقع هذه البؤرة يمكن الانطلاق يمينا وشمالاً لدراسة تأثيرها علي بقية مفردات النصب.

البؤرة الثانية هي السياق التاريخي ــ الزمني لمفردات النصب، وعندئذ يمكن الانطلاق من بؤرة الثور ورموز التراث السومري والبابلي القديمة، وصولا إلي رموز الوقت الحاضر الجندي الذي اقتلع السجن ليحرر العراق. وقد نجد في دراسة مثل هذه البؤرة تنقلا بين مفردات النصب لا يحكمها سياق فني أو تكويني معين. فالزمن لا يسير باتجاه واحد، وأن بدا لنا أرقاما متراكمة. وإنما هو قفزات متعاقبة ومتدرجة وما بين القفزات ثمة مناطق راكدة أو متجاوز عليها.

البؤرة الثالثة هي المرأة الأم والمرأة الرمز باعتبارها بؤرة مولدة لكل الخصب في الرافدين منذ القدم وحتي اليوم. وعندئذ لن يكون السياق الذي وضع فيه متدرجا وفق هذه الثيمة. فرمزية الأم موجود في الثور وفي الخيل وفي الزرع وفي الجندي وفي الطفل وفي الرافدين.. الخ لذلك تعد دراسة الأم ومفهومها القار بمثابة البؤرة المنتشرة في كل مفردات النصب فلم تخل مفردة من رمزية الأم والطفل إن كانت واضحة أو مضمرة.
الطريقة الثانية المقترحة لدراسة نصب الحرية هي دراسة ما تحتويه كل مفردة من مفرداته الأربع عشرة لوحدها لاستيضاح خصائصها أولا، ثم دراسة العلاقة بينها وبين ما يسبقها وما يلحقها من مفردات. ثانيا، أي وضع كل مفردة في أطار العلاقات الجدلية لما قبل ولما بعد، فقد بني النصب وفق هذه الصيغة التدرجية وعندما يصل إلي الجندي في الوسط يعود النصب إلي بنية المراجعة التراثية التي يبتدئ بها وإلي بنية الحاضر المستمر التي ينتهي إليها... وستكون بالضرورة المفردة الأولي مفردة استهلالية وفيها مفهوم (البداية) و(النواة) التي تختزن كل مفردات النصب علي شكل جنيني، وسيشمل تأثيرها علي كل ما سيلحقها من مفردات تبعا لوجود خصائص من النواة ولموقعها فيها وللعلاقة التي تنشئها مع المفردة اللاحقة لها وهكذا. فدراسة تأثير الاستهلال ابتداء من اليمين إلي اليسار بالتتابع تنتج لنا نوع من فهم العلاقة الزمنية والمكانية في بنية النصب. وهكذا ستكون المفردة الثانية لها خصوصيتها الفنية والتكوينية الخاصة بها، ثم الحاملة لخصائص العلاقة الآتية إليها من المفردة الاستهلال، ومن ثم ما يقع عليها من التأثير من المفردة التي سبقتها، ثم تأثيرها المتدرج علي كل ما سيلحقها من مفردات. وهكذا إلي آخر مكونات النصب.
 وهذا لا يعني أن المفردة الأخيرة (النهاية) ليست لها علاقة أيضا بما سبقها. فالنهاية تؤثر عكسيا علي كل ما سبقها حيث يكون الإحساس بها موجودا في الاستهلال. إذ بالإمكان معالجة الرؤية العكسية بالتتابع نفسه الذي ابتدأنا به، ولكن هذه المرة من اليسار إلي اليمين. أي من (النهاية إلي الاستهلال) وبمثل هذه الطريقة النقدية يمكننا أن نري كل مفردات النصب وهي في موقعها تتبادل التأثير المتدرج يمينا وشمالا وتضفي علي كل المفردات شيئا من خصوصيات متبادلة. فالنصب وحدة جدلية متكاملة وليس أجزاء صفت بعضها بجوار البعض.
الطريقة الثالثة المقترحة لدراسة نصب الحرية. وتتم فيها دراسة علاقة النصب بالمكان الذي أقيم فيه، ثم بالفضاء الذي يحيطه. وهي علاقة لا تقل أهمية في رؤية مفردات النصب مجتمعة أو مفردة. وقد نسجت مع المكان ومع الفضاء قيما جمالية وفنية جديدة لم تكن موجود في النصب، ولكن الفضاء والمكان قد أوحيا بها، بل جعلا هذه القيم جزءاً من مكونات النصب الكلية. إلا إن هذه الطريقة لا تكون منفصلة بل يمكن دمجها بأي من الطريقتين السابقتين.





رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  ياسين النصير


 

بحث :

Search Help


دليل الفنانيين التشكيليين

موسوعة الامثال العراقيه

انضموا الى قائمتنا البريدية

ألأسم:

البريد ألألكتروني:



 

 

 

 

Copyright © 1997- IraqiArt.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
ENANA.COM