اضخم معرض عراقي للنحت المعاصر في عمان يتالق فيه الفنان محمد غني حكمت

المقاله تحت باب  محور النقد
في 
07/09/2007 06:00 AM
GMT



تشهد قاعة الاورفلي في عمان اعتبارا من مساء هذا اليوم والايام التالية اضخم واول معرض عراقي للنحت البارز للفنان الكبير محمد غني حكمت يقام ضمن منهاج نشاطات المجلس العراقي للثقافة وبرعاية الاميرة ريم علي .

يضم المعرض العشرات من لوحات النحت البارز، تجسد مرحلة خاصة واستثنائية ومتقدمة في مسيرة الحركة التشكيلية العراقية ،و التي يمثل الفنان محمد غني حكمت واحدا من ابرز روادها ومبدعيها فقد ترك بصماته الجمالية واضحة المعالم متميزة الاسلوب في فضاءات بغداد وساحاتها العامة وقاعاتها وبيوتها وصدور ابطالها ومبدعيها من خلال نصب وتماثيل مستلهمة من التراث العراقي الاصيل وقلائد وميداليات تمثل خلاصة الابداع العراقي في مجال النحت الحديث المشبع بروح التاريخ العريق ونكهة التراث وجمالية التكوين المزدحم بالافكار والحكايات الاسطورية والواقعية على حد سواء .

لوحات محمد غني لكل واحدة منها قصة لاتكرر نفسها فلكل منها حكاية خاصة لكن لها علاقة جدلية بمحيطها ومجتمعها .اراد الفنان هذه المرة في معرضه الاول في عمان الذي يقام تحت عنوان ( حدث في العراق 2003 - 2007 ) ان يروي لنا بلغة الفن وسحره حكاية العراق والعراقيين منذ عام 2003 بعد ان تهاوت علي مدنهم حمم الجحيم واقتحمتها جيوش الغزاة وما رافقها من عمليات نهب وسلب كانت من اخطر صفحاتها قتل الانسان و تدمير اركان الثقافة العراقية من خلال سلب منظم لمقتنيات المتحف العراقي ومتاحف الفنون والمكتبات وامتدت الهجمة البربرية لمطاردة الانسان ومحاصرته بالرعب وبكتائب الموت وبالكوابيس والاحلام السوداء وتحول الوطن لجمهورية للرعب والخوف ومناطق عشوائية لملايين المهجرين قسرا وقهرا وتحت حجج طائفية كاذبة ابتدعتها عقول مريضة .. هذه المظاهر المفزعة كانت تشعل الحرائق في دواخل الفنان وتثير في نفسه القلق والفزع فيحاول ان يصرخ فيمد يده ليخطط صورا ملتقطة عن نشرات الاخبار عن اخر مشاهد الموت والدمار وتمزيق الكيان يتحول الامر لماكيتات صغيرة تكتب لها الحياة حين تصبح كائنات من البرونز لها القدرة على محادثة الناس والبوح لهم عما اصابها من انتهاك فهي تتحدث بلسان الضحايا الاحياء منهم والاموات وما بينهما ،هي بمجموعها شهادة عن عراق اليوم الرازح تحت الالم والتواق للنهوض من تحت الرماد.

المشهد العراقي بكامل مأساته يطالعك في معرض مثير للدهشة لقدرة هذا الفنان الكبير على اختصار تاريخ النحت العراقي بكامله في قطعة واحدة تشعر انها تعبر عن روح بابل واشور مطعمة بزخارف ومنمنمات من معين الحضارة العربية الاسلامية هكذا يتوحد الزمن بكل ابعاده الماضي والحاضر والمستقبل في معرض واحد بل في كل لوحة وهذا التكامل يتناغم وينصهر فلا نحسه تجميعا ميكانيا او نسخا وتقليدا او استعارات بل ان كل لوحة تحمل بجدارة اسم الفنان وهويته واسلوبه الذي حافظ على تفرده منذ اكثر من ستين عاما ويستحق بجدارة ان نلقبه بمدرسة لها رؤيتها و امتداداتها لاجيال من الفنانين. يحملون سماتها واسم صاحبها الاول..

محمد غني حكمة الذي نجح في ترميم ابعاد الزمن العراقي ووحد حضاراته استطاع ان يحول ويترجم ماساة العراقيين بكل فئاتهم الى منحوتات تتكلم بلغة الشعر وتصرخ بوجه الجمهور بل بوجه العالم كله وهي تصور ألم الامهات المفجوعات ، وضعف الشيوخ ، ووهن المرضى والجياع ، وخوف الاطفال وارتعاشهم امام الوحوش البشرية التي تجوب الشوارع والازقة تبحث عن المزيد من الضحايا... نسمع من قلب اللوحات صراخ العذارى ، وانين الشهداء ، نتحسس حزن الادباء ، واحباط الفنانيين ، واسف العلماء ، واحتجاج كل الكائنات وحيرة المهجرين قسرا فكل يشرئب عنقه لاتجاه يسارا او يمينا الى الاعلى اوالاسفل تتوجه العيون لكل اتجاهات الارض فهي في حالة ضياع وتيه لانهاية له.... وغيرهم تصورهم اللوحات في حالة انتظار قاتل ليس لجودو بل للامن الذي لم يستتب ابدا مادام الوحوش يلبسون ثياب البشر ويمسكون بمقادير الامور ويصدرون قرارات الموت وليس الحياة لانها ليست من اختصاصهم...

ونجح عملاق النحت العراقي في ترويض البرونز مثلما طوع من قبل الخشب والحجر والمرمر وصب فيه روحه وعبقريته فنكاد نتحسس انامل الفنان وهي تمسح برقة وشفافية دموع الصبايا وشفاه الاطفال وجبين الشهداء فيتحول البرونز لرقائق تحلق في سماء القاعة بل سماء الوطن مثل الفراشاة بل هي ارواح ضحايا الحروب تذكرنا بانسانيتنا الضائعة ووطننا المفقود او الممدود على مشرحة الدول الكبرى او تحت معاول ساستنا الذين ضيعوا البوصلة فتحول الوطن بكامله الى تيتانيك تترنح في ظلمات المحيطات ولكن كما يخبرنا محمد غني حكمت بالتصريح وبالاعمال المعروضة ان هذا الضياع لن يستمر طويلا.. ولن يضيع العراق وهذه الموجة السوداء والصفراء والحمراء وكل الالوان لم تكن هي الاولى في تاريخنا المزدحم بالقراصنة والغزاة ولكنهم جميعا مروا ولو فوق رفاة المضحين وعبر قرون طويلة ثم رحلوا مرغمين خاسرين وسنعود جميعا للعراق نعمره ونعمر فيه نحييه ويحيينا.... سنعود بعد ان تبدد شمس الرافدين ظلام الكهوف فتهرب الخفافيش والغربان والافاعي والوحوش البشرية ستعود لاوكارها. لاننا لانحبهم ولا يحبوننا وافعالهم الاجرامية غريبة علينا لم نالفها من قبل فهي ليست من اخلاقنا او طبيعتنا.... نعم لوحاتي تصور الماساة بقوة وبقسوة لكنها مثل قسوة الولادة والمخاض فهي تبشر بالولادة ولادة عراق جديد لنا جميعا ... هذا ماتقوله لوحات الامومة والطفولة ان العراق سيولد من رحم المعاناة وعبر مسيرة الالالم الطويلة سينهض
 من تحت الرماد مثل العنقاء وهذه ليست رؤيا كما يقول اوتقول منحوتات محمد غني حكمت بل هو ايمان يغمر قلوب كل العراقيين الاصلاء الذين لن يتسرب الياس الى ارواحهم التواقة للحياة والحرية وهكذا تستشعر هذه الارادة في عروق البرونز وامتداداته التي تقذف لدواخلنا الفكرة الحزينة لكنها واخيرا وبعد تامل سرعان ما تجعلنا نبتسم ونشعر بالثقة والامل بعد ان نرى الانهات تداعب الاطفال فنسمع كركراتهم تملأ صالة العرض فلايسعنا الا ان نبتسم او نكركر ببراءة و نقول شكرا للفنان الكبير الذي استنهض في اعماقنا الامل والثقة بالنفس عبر رحلة في عالم الجمال لخصت لنا معنى الحياة واكدت لنا ان الفنان هو الصانع الاول للامل والحب.. وهذه مناسبة تحمل المجلس العراقي للثقافة مسؤولية مضافة في مواصلة الجهد لاستثمار عطاء المبدعين في الاختصاصات كافة لحث الناس للتوحد والانتماء لثقافة التسامح والحرية واعادة اعمار كل ماخربته الحروب واولها النفوس لكي يعود العراق لمكانته الساميةويعود الابناء لحضن دجلة والفرات. .