المقاله تحت باب محور النقد في
31/01/2011 06:00 AM GMT
لطالما تحدث الفلاسفة ونقاد الفن والفنانون أنفسهم عن روح خفية في الفنان تنهض بأعباء الرسم واكتشاف حقائقه، تحضر وتغادر بارادتها وتنسب اليها معجزات الفن حتى يبدو الفن والفنان بدونها لا قيمة لهما. روح يراودها المبدع كي تحل فيه نعمة البصيرة عله يلمس شغاف الحقيقة الدفينة في الوجود. نذهب الى العالم بكل حواسنا نجني منه صورنا وخيالاتنا تضيؤنا أبصارنا الى ضيائه وظلاله، الأبصار ذاتها التي تهدينا في حقول اللوحة لنحرث تضاريس الأشياء على سطحها، بدونها يبدو حرثنا عشوائيا أعمى، فمن يأخذ بيدنا في متاهة الرسم غير عيوننا وقلوبنا ؟ من يأخذ الفنان في دروب اللوحة ليبرهن على وجود العالم غير بصره ؟ من يهدي المشاهد الى الضوء غير فنان رسمه وهو يبصره ؟ كيف لنا أن نسلم ايدنا الى رسام كفيف يقودنا في تلك المتاهة الى ضوء لم يتبينه والى أشياء غيبها العمى ؟ ماهي بوصلتة التي علينا أن نثق بصواب رأسها الذي لايحيد عن جهة الحقيقة ؟ ما المعنى الذي يسعى اليه ؟ مشاهدة أعمال الفنان ناصر اليوسف التي رسمها في فترة فقدانه للبصر تضيئ لنا الطريق الى الأجوبة التي تحيرنا والى أنفسنا لنثق بما نراه. كي نستوعب رسومه علينا الالتفات الى الداخل الى حيث تذوب الأشياء في ضمائرنا وتختفي ملامحها، أن نغمض أعيننا ونحن نشاهد، أن نرى الأشياء بأرواحنا وأن نعيد رسمها على طريقة ناصر لنكتشف كياناتها الواقعية، ونكتشف ايضا أن ماتراكم في وجداننا ليس غير معنى حقيقتها، وهي كذلك كما شاء لها الفنان أن تكون وليس كما نرى. نحن الرسامون نرسم بأعيننا أولا ونعرض لوحاتنا لمبصرين مثلنا. نحن نتبادل لعبة وخديعة البصر مع المشاهدين، ونوهم بعضهما البعض بما نعتقد أننا نراه وما يعتقدون أنهم يرونه، نساوم بعضنا على حقيقة العالم ونتفق عليها في أخر المطاف لأننا نراها معا ونتفق عليها معا ، أما ناصر اليوسف/ الكفيف لا يوهم أحدا فهو منزه عن خديعة البصر، تماهت في أصابعه وفي نسغ قلمه البصيرة المتراكمة في أعماقه، انها جسره الوحيد الواثق منه والذي يوقنه دون غيره يمده أمامنا لنعبر عليه الى الطرف الآخر من الواقع. جسره لا يمر فوق العالم ولا باتجاه أشكاله، انما عبر نسيجه الداخلي ونحو حقائقة الباطنة، وكي نتلمس طريقنا عليه يفترض علينا ناصر أن نغمص أعيننا كما أغمض العمى عيناه فهنا تحديدا لا نحتاج الى البصر ونحن معه نعبر الى الجهة الثانية، وأن نثق بضمائرنا وبه دليلا في البرزخ المفضي الى العالم والى أنفسنا. في أعماله الكرافيكية، موضوع بحثنا، عبر اليوسف نحو الطرف الأخر من أبصارنا، نحو تضاريس العالم المثلومة التي يغيبها البصر على عادته فهو بصر محدود المدى، فما كان يبصره ناصر/الكفيف لانراه نحن في الواقع لانه يبصر زمانا كان يوما ما زماننا، وهو يفترض اننا نراه، والذي نبصره نحن الآن لايراه هو في الواقع لكنه يفترض أنه يشبه ما كان يراه وما يرسمه لنا الآن .. اليوسف هنا يقوم بفعلين معا (التبصر والبصر ) نيابة عنا وقد أفترض بنا عيون له ننوب عنه في البصر للنظر الى الزمن الراهن، وراح هو ينوب عنا في التبصر في الزمن الغائب. لقد استعاد اليوسف زمانه الماضي من خلال حاضرنا واستعدنا نحن ماضينا من خلال حاضره/ لوحاته.... نحن العميان أذن ..!! يأخذ بيدنا كفيف الى عوالم محت الأيام السبل اليها وغادرتنا فكانت بصيرته أقصر الطرق المؤدية اليها وخطوطه أمامنا مسالك للنور ومسارب لليقظة. أقصت الدنيا تفاصيلها عن ناصر اليوسف فأعاد ترتيب معادلاتها الى اقصى حد ممكن واستبدل المعنى بقصد الواقع ممسكا بأقصر السبل الى الحقيقة. في لوحته (شخصيات من الفريج ) أستبدل اليوسف قصد الأنامل بقصد العين، اختار رحيق المعنى وعاف قصدية الشكل فرسم بالأبيض بدل الأسود ، ولم يبق من الأشكال إلا ما ينم عنها ويبوح سرا بوجودها. هنا في هذه اللوحة أسمع الفنان يقول لنا : الأشكال والشخصيات التي غادرتكم الى الأبد أعيد لكم بعض ملامحها فاكملوا خطوطها في أذهانكم وانفخوا في رماد أرواحكم لتسري فيها الحياة. بسهولة نادرة انساق اليوسف بوعي سلس يدرك شروط الرسم مع تيار داخلي يفضي الى الحياة، الى ذواتنا في نهاية المطاف عبر منعرجات لا حصر لها لخارطة ناصعة البياض. انتقى الفنان مفرداته من كيانات عايشها بود وحميمية: نساء مرقشات، نساء بالأسود، نساء بالأبيض، دجاج وديوك، رجال وأطفال في كل مكان وكانت الخطوط حجته الأقوى وبرهانه على سعة الوجود وكثافته. بعد أن عافت أشكاله ملامحها وتفاصيل اختلافاتها لم يعد هناك حياة بمعناها السائد المتنوع الملون و المتعدد الأوجه...لم يعد في متناول يده غير البنية الداخلية للعالم الذي ينبثق أمامنا بأشكال تنتمي ببعض خصائصها الى عالمنا. بمعنى آخر أن الحياة بتفاصيلها المرسومة أمامنا تستند في برهانها الى ذلك المعنى الداخلي الذي حددته لوحات اليوسف: " جلسة الشاي " مكتظة بالأحاديث والدجاج والحمام الأليف مما يمنح البشر والطبيعة خصالها الجميلة. لوحة " خيبة أمل " أمرأة تجلس القرفصاء تطوي نفسها مكسورة الخاطر وسط كوة بيضاء .. عبارة تشكيلية مزخرفة يلتصق بجانبها ديك يسعى للفرار من اللوحة... في الأعلى كوى صغيرة يتوسطها فانوس مطفئ.. ليس هناك أمل بل واقع ثابت الخيبة لا يتزحزح. ليس في أعماله فعل يغلب على فعل الخطوط وهي في اخر المطاف اشارات مختزلة لذاكرة مكتنزة بالناس وهم يؤدون طقوس الحياة، طقوس العمل: طبالون، باعة متجولون في الأسواق، عوائل تعد طعامها، صبايا وفتيان يهيمون فرحا...كلهم يأتون في وسط اللوحة حيث يمكن للعالم أن يكون باتجاهات أربع مفتوح من جهة واحدة كمسرح تؤدي الشخوص عليه دورها التاريخي، وبالأحرى دورنا نحن. في أحدى لوحاته المكرسة للأسواق المرسومة في 2004 ، رجل يدفع عربة وسط حشد من الناس وكأنها محملة بكل متاع الدنيا وأمالها، محملة بالمعنى كما تفعل لوحته " صانعي الزوارق " يتوسطها هيكل خشبي في طور البناء أو في طور التلاشي. الأبواب ... الأبواب لديه تشف عن بشر خلفها و بشر يشفون عن أبواب و المكان عبارة عن احالات الى الخارج والى الداخل معا فالمعنى واحد لديه وهو يوحد بين واقعية الشكل الممكن وميتافيزيقة غيابه.
لوحته " طبالون " الموشحة بالبياض تعج بأطفال يسبلون ايديهم باسترخاء وذهول يستسلمون للفرح خلف رجل ينفخ بقربة تكاد أن تنفجر بالموسيقى. فيها ما يوحد الناس ويوائم بينهم، قد يكون العيد أو اي فرح جماعي ... المهم ليس الرسم بل معنى الفرح الطافح في أعماق ناصر اليوسف. في عمله المرهف " رقصة شعبية في القرية " من عام 2004 يتوسطها حصان مختلق فهو كما يبدو رجل مغطى بوشاح ذو أقلام سوداء كما لو أنه جاء من أعماق القرون الوسطى. الحصان وفارسه في رقصة وسط حلبة يسورها نساء بصفين ورجال ينقرون على الرق ... أنها مسرح يذكرنا بمسرح الدمى لكنه غدا أسطورة في لوحة اليوسف بعد أن نزع عن واقعها قشرة التفاصيل وعفرنا برحيق المعني.
|