المقاله تحت باب محور النقد في
16/06/2011 06:00 AM GMT
يأتون خفافاً من مدن ترّن أسماؤها في الذاكرة العربية، كالموصل والبصرة وذي قار والنجف وميسان وتكريت وكركوك والسليمانية وأربيل، وينزرعون في رحم بغداد؛ الأم التي تُسكنهم وتَسكنهم، أينما ارتحلوا وحلّوا. نخبة فناني الثمانينيات والتسعينيات درسوا في معهد أو أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد، أو كليهما معاً، وعانوا مع بلدهم الحروب الإقليمية، أو الأممية، أو الحصار الدولي، أو كلها معاً. وبالنسبة لكل واحد منهم، كما بالنسبة لبيكاسو، "ليس هناك ماض للفن أو مستقبل، فأيّ عمل فني لا يعيش الحاضر لا اعتبار له قطّ". وهذه تعاسة "الجناح العراقي" في "بينالي البندقية" الذي غابوا عنه؛ لا اعتبار له قطّ. أمينة الجناح "ماري سشروذ" تقول إنها "تعمدت الابتعاد عن الحرب، أردنا أن نعطيه هوية"، وتستدرك: "هوية فقدها منذ دكتاتورية صدّام". حسناً، وماذا بعدُ لدى هذه الأمينة الأميركية على فن العراق الذي تجهله كجهلها أن الفن هو كل ما لا يمكن أن يُقهر؛ سواء أكان سبب القهر ذاتياً، كجنون "فان كوخ" الذي قاوم الانتحار بإبداع ما لا يُقهر، أو سببه القهر العام كحروب القرن العشرين التي قضت على الملايين، لكن قَهَرها عباقرة الفن الحديث بأعمال خالدة مَحَت قلب الظُلمة.
وإذا لم يكن الفن ما لا يمكن أن يُقهر فما الذي يجذب الجمهور ونقاد الفن إلى "الجناح العراقي" في "بينالي البندقية"، الذي شارك فيه 77 بلداً؟.. فالناس الذين تظاهروا بالملايين ضد الاحتلال الأميركي يريدون أن يتعلموا من الفنانين العراقيين الفن الذي يقول عنه الأديب الألماني برتولت بريخت "كل الفنون تساهم في أعظم الفنون كلها، وهو فن أن نمضي في الحياة". هل سيجدون ذلك لدى ستة فنانين عراقيين فقط شاركوا في "بينالي البندقية"، ومعظمهم مغتربون منذ السبعينيات، وليس بينهم من أسسّ نفسه في إيطاليا، كعفيفة لعيبي التي لم تؤسس نفسها كفنانة محترفة فقط في روما، بل أيضاً كمنتجة أعمال فنية تبيع في السوق الأوروبية، وتملك بها خبرة أكثر من شركات العلاقات العامة. كيف كان سيبدو "الجناح العراقي" لو تعهدته عفيفة، بعلاقاتها مع الوسط الفني الأوروبي، وأعمالها الجميلة من المدرسة الواقعية الجديدة التي تسحر الجمهور العام؟
وقد عبّر عن رأي الجمهور العام قارئ كتب في البريد الإلكتروني لـ"الجارديان" تعليقاً مقذعاً على تقرير مراسلة الصحيفة البريطانية من البندقية: "لمن، وما الهدف من أول جناح عراقي منذ 34 عاماً؟.. تغيير صورة العراق؟.. وحتى لو نجحوا في تغيير التصورات عن العراق، هل يأملون بإقناع هؤلاء المشوّهة عقولهم بالسفر لقضاء العطلة في العراق، هؤلاء المتملقين الأذلاء الذين يعتصرون أكفهم، غير المنتجين، الطفيليين، هادري المال العام"؟
ما خسرته إيطاليا في الصيف ربحته الإمارات في الربيع بمعرض "الفن العراقي اليوم" في غاليري"ميم" في دبي. ويعود الفارق بين الخسارة والربح إلى الفنانين العراقيين الذين نظموا معرض دبي بالروح "الرفاقية" التي أنشأت جماعات ومدارس الفن في العراق عبر القرن العشرين. يستحيل حدوث ذلك في "الجناح العراقي" الذي نظمته شركات علاقات عامة، وموّلته الحكومة العراقية، وشركة النفط الفرنسية "توتال"، وأرادت أن تغسل به 30 عاماً من ذاكرة العراق عندما اختارت له موضوع "المياه الجريحة". صحيفة "وول ستريت جورنال" ذكرت أن الموضوع اقترحه حسن الجنابي، سفير العراق في منظمة الأمم المتحدة بروما الذي كان مستشاراً لوزارة الموارد المائية في بغداد!
وفي الفن لا تأتي قبل نعم، وقد قال لا أمين معرض "الفن العراقي اليوم" في غاليري "ميم" ضياء العزاوي، المشهور عالمياً، ودعمه اثنان من أبرز جيل الأساتذة؛ رافع الناصري وعلي طالب. الناصري الذي علّمَ تلاميذه سنوات طويلة في أكاديمية الفنون ببغداد ما تعلمه سنوات طويلة في الصين والبرتغال، هو الآن رفيقهم في غربة تسيح أشكالها الملونة، كغبش الذكرى على سطح لوحته عن قصيدة المتنبي. "بِمَ التعللُ لا أهلٌ ولا وطنُ، ولا نديمٌ ولا كأسٌ ولا سَكنُ". وكما عند المتنبي، تنتفض ألوان الناصري على نفسها، بأشكال جريئة غير متوقعة. "كم قد قُتلتُ وكم قدْ مُتُ عندكمُ، ثم انتفضتُ فزال القبرُ والكَفَنُ". ومن يقاوم غواية أعمال "علي طالب"؟ حاولتُ بصعوبة أن لا أنحني على لوحته "الحورية" وأقتطف وجهها المطرز بباقة زهور تعوم في سائل اللوحة البيضاء، أضمّه لصدري وأمضي، وليحدث ما يحدث!
وهذا زمن الفنانين العراقيين الشباب، الذي قال عنه الأديب الفرنسي أندريه مالروا "لا يمكنك أن تصنع فناً يتحدث للجماهير إلاّ عندما لا يكون عندك ما تقوله لها". وما لا يقوله الكلام تقوله أعمال غسان غائب، وكريم رسن، ونزار يحيى، ونديم الكوفي، ودلير سعد شاكر، ومظهر أحمد، وحليم الكريم، ومحمود العبيدي، وعلي جبار، وهيمت علي شاكر. "من يرى رسومهم اليوم لابد أن يشعر بالتفاؤل. هناك رهان جمالي رابح خرج من منعطف كابوسي". يذكر ذلك الناقد فاروق يوسف الذي يستشف في أعمالهم صلابة "مستلهمة من الذات العراقية التي تخدع: مظهر غنائي هش في مقابل صلابة متمردة تميل إلى الانحياز إلى ما هو حقيقي. رومانسي لكنه محارب. ذلك ما يعني أن الرسم لا يقبل أي زيف جمالي".
وكما في أيام الدراسة بأكاديمية الفنون، تقف هناء مال الله بين زملائها بضراوة قادمة من ذي قار، موطن زقورة أور: "نحن نعتبر مواد الفن التقليدية عاجزة عن نقل رسالتنا الفنية. بدلاً عنها تعامَلنا مع قطع أوراق وأقمشة محترقة، وأسلاك شائكة، وطلقات نارية، ومع شظايا خشبية، ومواد متروكة؛ مستعيرين من التاريخ ومن حاضرنا الكارثي على حد سواء". تذكر ذلك هناء في حديث للناقدة الباكستانية "سمر فاروقي" منشور بالإنجليزية في دراسة عنوانها "الفن كمتنفس سايكولوجي". وتُعلّم هناء الفنانين الشباب حول العالم: "تقنية الخراب بالنسبة لكثير منا علامة بصرية على مقاومتنا الثقافية وحاملاً لهويتنا كفنانين عراقيين". وهذا موضوع أطروحتها للدكتوراه في فلسفة الفن، والتي اعتمدت فيها على علوم الرياضيات والسيميائية.
هؤلاء الفنانين سيكون عليهم أن يؤلفوا بلادهم. يتوقع ذلك فاروق يوسف في كتاب عنوانه "الفن العراقي اليوم" يصدر قريباً بالعربية والإنجليزية. "العراق هنا، العراق هناك، العراق لا هنا ولا هناك. لن يقول أحد منهم: هذا هو العراق. يعرفون أن العراق لا يمكن تشخيصه، لكنهم يعرفون أن أي تجريد لا يمكنه أن يخلص لعراق كافح سبعة آلاف عام من أجل أن يكون موجوداً".
http://www.alittihad.ae/wajhatdetails.php?id=59732
|