المقاله تحت باب مقالات فنيه في
29/03/2013 06:00 AM GMT
هذه المنحوتة الخشبية، من مقتنياتي التي اعتز بها، ابدعتها أنامل الفنان منذر علي، النحات العراقي الذي لم يغادر العراق و لا يزال مقيما فيه، هي من خشب الساج بطول 53 سم مع القاعدة. تركت هذا العمل خلفي في العراق، في بيتي حين هاجرتُ، بعدها هاجرت عائلتي بالكامل.. و بعد أن عاد الى بيتنا، الذي عُبث به، من عاد ، عدت اسأل عنه اعتزازا، و أحث على البحث عنه بين ركام الاشياء. بدا لوقت ما انه قد فُقد، فاندرج في ذهني بألم في قائمة الخسارات، ثم.... أُخبرت انه هناك! لقد وجدوه! و مع أول المسافرين رجوت جلبه إليّ. هو الآن في مشغلي ببرلين، أعيد تأمله من كافة وجوهه و أسرد حتى لزملائي الألمان قصته و ما يثيره فيّ. بعض من هذه المرويات التي اثارها فيّ استعيده الآن مقالا تحليليا.
في عقد التسعينات، ربما منتصفه، اتفقنا، منذر و انا أن نتهادى، أن يهديني واحدا من أعماله، مقابل عمل مائي لي. اقترحت عليه هذا العمل بالذات، كنت و لا أزال معجبا به لأسباب تتاح لي الفرصة الآن لسردها. ليس كل السرد الذي سيلي مما اثاره فيّ هذا العمل قد يكون بالضرورة من نوايا الفنان و ربما لا تتلائم بعض تفاصيل تأويلي مع تأويله. فالفنان لا ينشغل، بادئ ذي بدء، بالتأويل انما بالتجسيد، و تنساب رؤيته حركة تنفيذية مثابرة متوترة يشوبها شيء من الغموض. بات هذا الأمر معروفا: العمل الابداعي يقدح شرارة التأويل اللاحق لدى الفنان و المشاهد و يسمح بالتحليق الى ابعاد من الخيال تتجاوز حجمه و تتجاوز النوايا المحددة و المباشرة لإنجازه. يتشكل المنجز الابداعي على خلفية معرفية و طرائق بعضها موّرث للتذوق، كامنة في الوعي غير المدرك أو غير المحدد بتعبير لغوي. عند تحليل العمل التشكيلي يتم التصدي لمهمة ليست سهلة: تحويل الادراك البصري الى سرد، أي تحويل ما تحيط به العين إلى ما هو مسموع و مقروء. على ان اكثر الاعمال اثارة و مدعاة للتأمل، كهذا الذي امامنا كما ارى، هي تلك التي تثير فينا اكبر قدر من الخيال و السرد، و التي يبقى فيها التأويل و اعادة التأويل ممكنين لفترة قد لا تنتهي. تتجاوز مساحة الرواية حجم المنحوته و تحيط بها من كل الجهات. ففي لوحة عائلة بليلي لـ "ديكا" (degas, bellelli family) على سبيل المثال، رأى نقاد سردا سبق اللحظة، لحظة التصوير، و تجاوزها لما سيحصل بعدها، النتاج التشكيلي لحظة، معطى نهائي ليس ذا زمن، و لكن اثارته ذات زمن قد يطول او يقصر. تأويلات رقم 1 المرأة و طفلها يسيران في سوق مكتظ، تتناهى عبرهم إلينا اصوات متداخلة تُخرج العمل عن صمته و تشركنا في الفعل، تشد انتباه الطفل. التفاتته ليست ثابتة، انها ديناميكية في كل الاتجاهات و لكنها هنا لحظة في الحركة. يدير الطفل رأسه، منشدا الى الحركة و صراخ الباعة، إلى كافة الاتجاهات و بفضول الاكتشافات المبكرة، الام غير مكترثة، لقد إلفَتِ المشهد حد الملل و بات الذهاب الى السوق واجبا ثقيلا، فيما الطفل يتمتع.
رقم 2 الام تبدو حزينة فيما يبدو الطفل غير مكترث. هي تنظر الى الامام، ربما لا ترى شيئا محددا، إنها ساهمة، تفكر بشئ ما دون ما ترى، دون ان تحس بما يدور من حولها. الزوج غائب في مكان ما ؟ ربما يتواجد هذه اللحظة في احدى جبهات القتال؟ تاريخ الانجاز في التسعينات يبرر هذا التأويل. يدها اليسرى تتحسس قدم الطفل على الكتف الايمن، تمسه بالكاد. إنه لا يزال هناك في الأعلى. تشعر بالاطمئنان و الحرص على الأمانة. رقم 3 فيما تستقر القدمان على كتفيها تمس يدا الطفل رأسَ الام مساً خفيفا، فقط من اجل حفظ التوازن، و على خلاف نظرتها الفارغة نحو الامام، نحو نقطة غير محددة، يتطلع الطفل بانشداد الى يمينه، الى شيء محسوس و قائم يثير الاهتمام، فيما يسترسل شعره في الاتجاه الآخر. تضع الامهات الاطفال واقفين على الاكتاف حين تريد ان تريهم شيئا فتطول قامتهم اكثر من قامات الرجال المتحلقين حول مشهد مثير للفضول، عازف في عرس ما مثلا، راقصين، مشهد لعراك. لا يشارك الطفل امه قلقها و انصرافها عما يجري امامه ، انه يعيش اللحظة، هو لا يدرك ما يجري. يعود الاب (وقد لا يعود ابدا) بعد كل انقطاع اكثر شوقا و اهتماما فيما يبقى هو، بغيابه، موضع اهتمام مضاعف من امه، لا يشاركه فيها أحد.
رقم 4 الطفل ذو بنية قوية، جسده و اطرافة مكتنزة، تحاكي طيات رداءه طياتِ رداء الام، فيما الام رشيقة جسدها ذو استطالات تتجاوز قواعد التناسب الكلاسيكي شيء أقل راديكالية من جياكوميتي، ربما اكثر انحيازا لفن الرليف الرافيديني. تضفي الاستطالة و الرداءُ المشدود نكهةً على جسد المرأة و عدوى اشتهاء يؤججها الحرمان و الانتظار المنقولان خارج حدود الوجود المادي للجسد، هالةً آسرة، فيما يلاعب نسيم خفيف الرداء خالقا طيات قاصدا احداث حركة تخرج الخشب عن سكونه.
رقم 5 تتقوس اليد اليمنى فوق البطن مظهرة تكورا خفيفا، ربما المرأة حامل، حمل مبكر. "أي مرارة هذه" ، تفكر هي، ربما يكون هذا هو قلقها في غياب الاب و غموض المصير. معصم اليد اليمني يستقر بين النهدين مبرزا تكورين لدنين رغم صلابة الخشب، و مع اليد اليمنى المستقرة على تكور البطن تشكل اليد اليسرى المستقرة بين النهدين حتى الكتف، شكلَ مثلث فيما تمسك اصابع اليد اليمنى الملتفة حول نصف الجسد طرف الرداء الجانبي، تشده خفيفيا محدثة طيات. لا تعطي القدمان المحددتان بقاعدة المنحوته ما يشير الى حالة الوقوف، بل انها تسير بخطى وئيدة و ربما تهم بالمسير. تهتم المرأة، رغم انشغالها و حزنها الدفين بما يهم الطفل القوي الواثق من نفسه المتطلع الى ابعد ما يكون
رقم 6 هي تسير في طريق العودة الى القرية، على يمينها يجري جدول، تنظر باستقامة الى الطريق الضيق، حذرة. إلى يمينها، الى حيث يتطلع الطفل، بساتين من نخيل تمتد حتى الافق. هناك من سيكون بانتظارها و ستروي للجميع قصة يتطلعون الى سماعها بعد أن تناهت الى اسماعهم نتف منها. المرأة و طفلها ساعين الى جماعة اكبر من الاقارب و المعارف. هي تفكر بما سوف تروي و تخشى مما يجب أن ترويه فهي امرأة و هو رجل، الطفل يشعرها بالامان ربما يكون شفيعها و عربون قبولها الى حيث كانت تنتمي و حيث تربت و كبرت، و لكن الوجوم لم يفارقها، و هي بانتظار المجهول. منذر علي فنان بقلب كبير و رؤية انسانية، وظّف طرق تعبير حداثية دون مغالاة او قطيعة و قدم اعمالا جديرة بأن تكون دررا في مسيرة التشكيل العراقي. www.munir-alubaidi@web.de
|