معرض مصدق الحبيـب احتفال بصري في الشكل واللون والضوء

المقاله تحت باب  مقالات فنيه
في 
20/11/2007 06:00 AM
GMT



يحلّق بنا الحبيب مع ذاكرته الى ايام مضت منذ زمن طويل  في وطنه الأم، العراق، عندما كان طفلا صغيرا يلاحظ عن كثب أمه أو جدته وهي تعامل شعرها الطويل بمحلول الحنة فوق سطح الدار في يوم مشمس جميل!   يتجسد هذا المنظر في احدى لوحات المعرض المسمى "تأملات" المقام على قاعة برنيت وسط مدينة امهرست خلال شهر نوفمبر الحالي.  المشهد في هذه اللوحة التي تشع بالدفء والسكينة هو لامرأة تسرح شعرها وبجانبها صحن من الحنة ومشط خشبي قديم ذو صفين من الاسنان.  وقد بدا الشعر الطويل المتماوج مثل تلال رمال الصحراء التي تتداخل وتتكامل مع خلفية اللوحة بأشكال هندسية تعلن عن بصمة الحبيب المتميزة في تكعيبيته المحوّرة. يقول الحبيب: " لطالما افتقدت تلك الايام وتقت اليها..أيام التشمس في النهار والنوم فوق سطح الدار في ليال النسيم التي تبدو فيها السماء كسقف اسود مرصع بالنجوم او معتمر بالقمر"!

 

بدأ افتتان الحبيب بالفن مبكرا. ففي سن الرابعة كان يراقب بشغف شديد أخاه الاكبر وهو يخط خطوطا عربية. وعلى حين غرة التقط الطفل يوما قطعة من الطباشير وأخذ يخط على جدار الدار الاسمنتي حروفا مقلدا فيها اخاه، الامر الذي أثار اهتمام واعجاب العائلة وحظى بتشجيعها. كما ان الاعجاب والتشجيع كان وافرا ايضا من معلم المدرسة الذي كان يكلفه وهو في الصف الثاني الابتدائي باستنساخ احدى صور الكتب على السبورة ليقوم تلاميذ الصف باستنساخها في دفاترهم من بعده.   يسترجع الحبيب تلك الاحداث فيرى ويقدر كم كان لذلك التشجيع الثنائي من العائلة والمدرسة الاثر الكبير في رعاية اهتمامه الفني ووضعه على طريق ممارسة الخط والرسم والابداع بهما معا، الامر الذي يحمله على القول بأنه من القلائل الذين يمارسون هذين الصنفين من الفنون معا وعلى حدة.  وبالرغم من ان الحبيب ذهب لدراسة الاقتصاد في جامعة بغداد واستمر في اكمال الدكتوراه في جامعة الينوي ومن ثم التحق بالهيئة التدريسية في جامعة ماسجيوستس، فانه لم يترك مزاولة الفن بل جعله مكملا لحياته خلال الثلاثين سنة الماضية. يكتب الحبيب في كراس معرضه:  " الرسم بالنسبة لي هو الحيز الذي ينمو ويزدهر فيه التصور، وهو النشاط الذي يحرر العقل ويريح الجسد من التوترات التي تكتنفهما وتعكر صفوهما.. حين أرسم وأرى بأم عيني كيف تكتمل الاشكال وتتداخل الالوان على اللوحة ، احس ان هواءً نقي يدخل الى اعماقي فيجعل رئتي تتنفس بشكل افضل وعقلي يفكر بشكل أوضح".

 

 

خلال جولتي معه عبر لوحات المعرض سألته عن الكيفية التي يختار بموجبها موضوعاته او الاسلوب الفني الذي ينتهجه. أجاب وهو يشير الى لوحة بهية باذ خة الالوان والانحناءات والتكورات بعنوان (28 دائرة)!! في هذه اللوحة تجلس امرأة فاتنة مرتدية فستانا احمرا مثيرا ..مطرقة برأسها وهي تضم كفيها بين ركبتيها. قال:  "حين بدأت بعدة تخطيطات لاختيار الوضعية المناسبة لجلوس المرأة لاحظت ان رأسها المطرق وشعرها المشدود الى الوراء ومايظهر من أنفها ماهي الا دوائر كاملة فانتبهت الى كتفيها وصدرها وفتحة فستانها ووركها وركبتيها ولم ار الا دوائرا اخرى..عندها اصبح الامر قرارا واعيا ومتقصدا بأن من الافضل أن لاتحتوي اللوحة الا عددا من الدوائر ستشكل من تداخلاتها هيئة المرأة التي كنت اخطط".  عبرت اجزاء تلك الدوائر المتداخلة الى خلفية اللوحة التي تشكلت من مدارات متقاطعة ملأت الفضاء بالحيوية والجلال واضافت الى مناخ اللوحة سحرا اخاذاً.

 

شكلت "المرأة" وانحناءات جسدها المثير ثيمة المعرض المهيمنة على ماعرض من اعمال.  واجابة على سؤالي عن السبب في اختيار ذلك، علّق الحبيب : " ان لم يرسم الفنان المرأة وجسدها الجميل، فمالذي سيكون جديرا بالرسم؟ البايسكل ام السيارة؟؟ فاضافة الى عنصر الجمال، لايمكن ان ينكر احد بأن المرأة هي رمز الحياة والحب والعطاء والامان وكل القيم التي نتوق اليها".  على ان الحبيب لم يجعل موضوع المرأة  مقتصرا على جمال جسدها فالمعرض ضم لوحتين جسدتا التراجيديا العراقية بالتركيز على ألم ومعاناة المرأة العراقية.  واذ تبدو هاتان اللوحتان بموضوعهما السردي الدراماتيكي استثناءا على اعمال الحبيب غير السردية، فقد جاءتا انعكاسا مباشرا لعواطفه ازاء مايجري في العراق. يقول الحبيب في هذا الصدد: "المرأة العراقية هي اكبر الضحايا في هذه الحرب وماقبلها من ظروف مأساوية..وان منظر المرأة المفجوعة ليس غريبا على مخيلتي، فقد رأيته وعشته وكنت ولاأزال جزءً منه". 

وعلى الرغم من هيمنة لوحات الكانفس الكبيرة المرسومة بتكعيبية الحبيب المحوّرة، فقد احتوى المعرض على نماذج اخرى من اعمال الفنان تضمنت قطعا في الرسم الواقعي التوضيحي وهي بقايا مما اعتاد الحبيب عليه في الماضي كرسام وخطاط ومصمم صحفي في بغداد. كما احتوى على بعض لوحات البورتريت الصحفي المرسومة بطريقة تجريبية والتي صورت بعض اعلام الثقافة العراقية مثل الجواهري والسياب وجواد سليم. 

 

وعن ميله الى الاسلوب التكعيبي، يقول الحبيب: " كنت ولاأزال معجبا بفكرة التكعيبيين الاوائل  التي تركزت على امكانية الفنان في تصوير ماوراء العالم الفيزياوي المنظور واختراق ظاهر الاشياء الى بواطنها والولوج الى جوهرها..هذه الفكرة استلزمت تحطيم المنظور الهندسي والاخلال بمسارات الضوء وخط النظر الفيزياوي للحد الذي اصبحت فيه الاشياء الصلدة تبدو وكأنها شفافة".  ويستطرد الحبيب الى تغير نظرته وفلسفته في الفن، فيقول: مايهمني الان هو الشكل ومعالجاته البصرية اكثر بكثير من اهتمامي بالمحتوى والمعنى الاجتماعي للعمل الفني، وهذا هو السبب الاول في العزوف عن الموضوعات السردية". ويضيف: "عندما كنت في العراق، ولحد المرحلة الجامعية، ومثل أغلب الفنانين وهم نتاج واقعهم السياسي والاجتماعي، كنت مؤمنا بانه يجب ان تكون للفن رسالة سياسية او اجتماعية معينة، ولكنني مع العمر واتساع دائرة المعرفة والاطلاع والتجربة أدركت بأن ماكنت مؤمنا به ليس بالضرورة هو الحجة المطلقة.. بل انها افكار كانت وليدة الواقع الثقافي الذي نشأ وتطور في رحم المناخ الايديولوجي المتزمت، والتي هي ان لم تكن خطأ فانها بالتأكيد افكار وحيدة المنشأ وغير منفتحة على اي مصدر آخر.  القضية المركزية في ازدهار الفن هي تحرره من ذلك النوع من الالتزامات الايديولوجية القسرية.  وعن اهتمامه بهذا الموضوع بالذات وحرصه على ان تسلك الاجيال القادمة طريقا آخر في فهم الفن يقول الحبيب انه في صدد تأليف كتاب باللغة العربية لمعالجة موضوع الحرية والابداع الفني، وهي مساهمة في ارساء دعائم الثقافة المنفتحة.  ويضيف : " لقد نشأت وترعرعت في بلد خنق نظامه التوتاليتاري المتطرف الفنون والاداب بأجمعها وحصر تأثيرها بما يخدم ايديولوجيا الحزب الحاكم، حيث تعرضت كافة النشاطات الفنية خلال الاربعين سنة من حكم البعث الفاشستي الى رقابة وسيطرة حكومية كاملة، فليس هناك معرضا أو مسرحية او فلما يتم انتاجه او كتابا يتم نشره او مؤتمرا أو اجتماعا يعقد من دون موافقة واشراف ومتابعة الحكومة ولجانها الجاهلة المأجورة ومعاييرها السياسية الرخيصة" .  ويضيف بألم، واذا كان ذلك سيئا ومقرفا حينذاك، فالحال الحاضر اسوأ بكثير في ظل تدمير المرافق الثقافية وتعطيل وتجميد والغاء وابطال معظم النشاطات الثقافية بسبب جموح الارهاب وشيوع الهيمنة الدينية والطائفية المتخلفة اضافة الى اسفاف الاحتلال ومفاقمته للاوضاع المأساوية.

ويختتم الحبيب قائلا انه لن يفقد الامل رغم كل تلك الكوارث، فطريق الحرية والديمقراطية طويل ومثقل بالتضحيات وانه يرى المستقبل مشرقا.
بقلم الكاتبة الامريكية باني ويلز