الفنان مكي حسين النحت في فضاء الايديولوجيا

المقاله تحت باب  مقالات فنيه
في 
27/11/2007 06:00 AM
GMT



                


                

ما يخص تجربته الفنية اشار الفنان بتواضع المتمكن من عمله, انه يتعامل مع النحت وفق ثلاثة مبادئ نظرية وعملية: المبدأ الأول هو قلب المفهوم الهرمي للنحت الذي ساد اعمال النحاتين منذ القدم, وهو ان يجعلوا من قاعدة الهرم قاعدة للتمثال, وقمة الهرم قمة للتمثال, مكي حسين جعل من قمة الهرم المدببة قاعدة لتماثيله, ومن قاعدته قمة لها, وهذا لا يعني قلبا لمفهوم السماء ـ الارض, او الأعلى اسفل فيزياويا ورياضيا, انما البحث عن جمالية فنية تعتمد التوازن, في الكتل على قاعدة غير مألوفة. أي ان التعامل مع بنية المثلث الذي تكون قاعدته الى الاعلى, هو بحث جمالي قبل ان يكون تنويعا في حجوم كتلة وتوازنها. وبالفعل كل تماثيله في امسية جميلة في مدينة لاهاي قدم الفنان مكي حسين محاضرة عن اعماله النحتية من خلال عرض سلايدات مختلفة لتجاربه خلال السنوات الخمس الاخيرة

ابتدأ الفنان بشرح مبسط للتعامل مع النحت مشيرا الى ان مادة البرونز هي المفضلة لديه, وان ما سوف نشاهده من اعمال هنا ليست الا تماثيل مصنوعة من الطين تعد نماذج اصلية قبل ان تنفذ بالبرونز. وهي اعمال قاربت العشرين عملا ومعظمها بأحجام لا تتجاوز الاربعين سم ارتفاعا.

كانت من الاعلى متسعة بينما يكون ارتكازها في الأسفل على نقطة واحدة مسندة بفضاء. وقد اجلس شخوصه على منصة ملتصقة هي الاخرى بالتمثال وليس بالقاعدة.

مما يوحي ان التمثال يجلس في فضاء على مسند في حين ان التمثال ومسنده كلاهما يستندان على قاعدة مدببة. مما جعل التعامل مع ثمة التوازن مشكلة بحد ذاتها. فالنصب تميل وهي في فضاء مشتبك مع الكتلة الى الحوار والى علاقة ما لأنها جزء من بنية روحية محلقة في فضاء الرغبة والتحرر. ولذلك جاءت اسماء معظم تماثيله: علاقة, انسجام, حوار, حب, تحرر, شهداء, اعتاق, سقوط عمود, لجوء.. الخ. وكلها تبني اسماءها ودلالتها الفكرية على بنية العلاقة بين الكتلة والفضاء. في تعامل روحي تظهر علاماته على الجسد الذي كان منفعلا وسياق العلاقة الحوار.

المبدأ الثاني هو الفضاء الخارجي.. ويعني بذلك الفراع الذي يحيط بالتمثال. ومن خلال الصور التي جهد الفنان ان يظهر تماثيله فيها من زوايا مختلفة ومؤكدا فيها ان التمثال لا يرى من جهة واحدة, بل من جهات عدة وعلى الفنان ان يحرص على ان يبرز جمالية النحت بوصفه فنا مكانيا عندما ينظر اليه من زوايا مختلفة. خاصة عندما يوضع في الساحات. علما بأن تماثيله لا تميل الى التضخيم بل هي من منطق تماثيل الصالة تلك التي تعتمد على فضاء مضاء تقنيا وعلى حركة للعين موضعية تبين تفاصيله عن قرب ولهذا حرص الفنان ان يظهر لنا بالصور كل جزيئات النصب الصغيرة وكأنها كبيرة من خلال تكبير حجومها المصورة, هذا الامر جعل من الفضاء المحيط بها مشغولا بلون ابيض ـ رصاصي ـ مائي ـ كي يمد من الرؤية الى خارج فضاء الكتلة.


ففي كل لقطة له من الامام او من الخلف او من الجنب وبزوايا رؤيوية مختلفة تؤكد قيمة مضافة للتمثال, مما يعني ان للفضاء المحيط بالتمثال قوة معرفية مشغولة به ومؤكدة لحضوره ومضيفة اليه قدرة على اختراق الفضاء او الانضواء تحته, وبدت الصور المكبرة لنصبه الصغير تعيش في فضاء مشغول, وفي مكان ممتلئ بحساسية الكتلة الممتلئة بتفاصيل الجسد تشريحا وفنا. وفي اطار التعامل مع الفضاء نجد ان نصبه هذه بعضها يصلح لأن يكون نصبا كبيرا في الشوارع, وبعضها يصلح لأن يكون في الصالة. وهذه الطريقة التي تجمع بين فضاء المدينة الذي تضيئه الشمس او الاضواء الكهربائية, وبين فضاء الصالة المضاء بالكهرباء واحدة من قدرات النحات على التعامل مع الفضاء بروحية فنية, وليست بروحية استهلاكية ـ نفعية ـ تجارية.

وان لم يخل الفن النحتي من هذه المنفعة. فهو ليس فنان حدائق وشوارع, وان كنا نأمل ذلك, بل فنان الصالات والمعارض المتنقلة تلك التي تؤكد على بروز قيمة التشريح للجسد بتفاصيل دقيقة وبرؤية قريبة, وتلك التي تؤكد على الثمة الجمالية التي تتجسد من خلال العلاقة بين اجزاء التمثال وفكرته ومضامينه ومعظمها مضامين داخلية تجد انعكاساتها وتعبيراتها على الجسد والعضلات فتبرز لقلة انفعالية مشحونة بتوترات المحيط وخاصة الفكرة التي يؤمن بها عندما قال عنها الفنان: انها فكرة اجتماعية وانها من ديون الوطن على الفنان.

وليس الفن مهما كان خارج هذه الاطر وهذه الاهتمامات السياسية والفكرية المعاصرة, الا وهم, ونحن ابناء وطن مكلوم ومعذب فلا هروب عن ما نؤمن به. مما يعني ان بعدا ايديولوجيا يتضمن تماثيله في قيم جمالية بعيدة عن الهتاف والصراخ والقول المباشر, وهذا الامر يعود الى استقرار الفنان القلق, وبقاء العراق والفن في اطر المشكلات السياسية, وعدم وجود تعامل منضبط مع الفنانين, خاصة وان الفن العراقي مثل الادب لا ينمو جيدا ولا يتطور خارج ارضه.

المبدأ الثالث هو المربع. فالمربع الذي نشاهده في اعماله يضفي على تماثيله بعدا رياضيا وبصريا ودلاليا, فهو من حيث تكوينه يعطي للتمثال قيمة جمالية تحدد فضاء معينا يحيط بالتمثال من شأنه ان لا يجعل التمثال في فراغ كلي. وفيه نلمح الصرامة والقوة الرياضية المحسوبة, وقد استعمل المربع والمثلث في الفنون بوصفهما اضلاع صارمة الحد على العكس من بنية الدائرة المرنة, تلك التي بدأت بها حادثة مدرسة بغداد للفن الحديث عند جواد سليم في العديد من رسومه ومنحوتاته , لنتذكر السجين السياسي والشكل الصارم الذي احاطه, دالا به على العنف الخارجي المحيط بالنفس والجسد الثوريين. لكنه وهو يحدد مساحة ما بالمربع, يصبح جزءا من التمثال وهما اللذان يكونان ـ الشخص والمربع ـ معا في فضاء اكبر. وهذه الثمة التشكيلية جعلته يتعامل مع المربع بوصفه قيمة تشكيلية تجريدية, في نصب معينة, وبوصفه كتلة, يمكن اختراقها والرسم عليها في نصب اخرى.

 

عندما عمل فيه فتحات هي جزء من بعد التمثال نفسه لتمثال المرأة وظل الرجل او الشهداء الذين تعلقوا في مشنقة المربع, او الانسجام الذي رؤى بزوايا مختلفة. كان المربع متكئا عليها وموقعا لاتكاء عليه. المربع كقيمة تشكيلية اعطى لنصبه الصغيرة مبدئيا فكرة الاحتواء الفضائي لبقعة مشغولة بتفكير الشخصية وبدلالة الاسم, مما يعني ان المربع ليس هو شكلا مجردا ملصقا بالتماثيل, بل هو تكوين فاعل من تكوينات المخيلة. بحيث نجده يتحول الى فراغ ضمن فضاء, والى كتلة جميلة ـ تشكيلية ضمن فضاء اوسع.

هذه المبادئ جعلت من تماثيله في اطار البحث عن سؤال معرفي دائم. وعن تصور نقدي يمكننا ان نفترض له بعض المفاهيم التي تعيننا على فهم نصبه الصغيرة. فهي من حيث بنية التشريح للجسد, نجدها مؤكدة من خلال اربع مفردات تشكيلية.

الاولى هي بنية عضلات الجسد العلوية, دون بنية عضلات الساقين. فالفنان يؤكد ان القيمة التشكيلية هي قيمة اكاديمية تكمن في بروز الصدر وعضلات الجسد العليا, معيدا علينا تصورات نحت عصر النهضة.

وجماليات الرجل دون المرأة ـ تمثال واحد لامرأة تبحث عن ظل رجل ـ في حين ان اسفل الجسد ليس الا اما ان يكون متكلئا, واما ان يكون ملحقا تابعا لحركة الاقسام العليا. وهذا ما جعله في المفردة الثانية ان يلغي الرأس ويحوله الى كتله ذائبة في الجسد نتيجة علاقة ما بالآخر المجهول, او موتا له او انعدام تفكيره. وثيمة الرأس الملغي مؤكدة في الفن التشكيلي العراقي عند فنانين كثيرين من امثال محمد راضي وسلمان البصري ومحمد مهر الدين وتخطيطات اسماعيل فتاح الترك, في حين انها عند علي طالب كانت تصورات كونية معتملة بالمجهول والمستقبل, فالفكر عند علي له حضور, اي ان للرأس المقطوع او الملغي بعدا ايديولوجيا عندما كان قضية يحاسب عليها المثقف في فكرة وفي تصوراته فألغى الفنانون الرأس دلالة على الالغاء المتعمد للفكر.

المفردة الثانية, هي ان الجسد دائما في علاقة سؤال مع الفضاء, لذا كانت كل حركاته متجهة نحو الخارج, اما هربا من قضية او مواجها لها او شهادة لها. وهذه الثمة الجمالية جعلت تماثيله في حركة دائمة الى الامام, متجهة بانحناء شعرية مندفعة بإرادة. وليس تمثالا ساكنا على بقعة او مسند, والحركة تتجه نحو هدف ما يبدو لنا ان الفنان يتعامل مع القوى الضاغطة على شخصياته من خلال ردود افعال الشخصيات المجسدة امامنا باندفاعها الى امام بقوة, تاركة الارض ومن فيها ومحلقة في فضاء البحث عن سؤال.

المفردة الثالثة. تكمن في بنية الطين البلاستيكية التي اعتمدها بدلا من البرونز تمهيدا لصبها لاحقا. فالطين تكوين مطواع, يتلاءم والمشاعر النفسية لاسيما وان علاقته باليد مثل علاقة اليد بالفرشاة. فبعد ان يعمل تمثاله من الطين يصبغه باللون البرونزي, ويتعامل معه كما لو كان برونزا حقيقيا, فيعتق الوانه ليظهر فيه الصدأ, او اجزاء منها ليبد والتمثال لنا في تركيبة شعرية تؤكد ثمة الجسد في الفراع.. وهذه المفردة جعلت من اجزاء الجسد مطواعة مع غيرها من الاجزاء ومنسجمة مع الفضاء.

المفردة الرابعة, هو العقل الرياضي الذي يحيط بنصبه الصغيرة, ونعني به كما اسلفنا المربع وحدوده الصارمة في اقتناص فسحة من الفضاء وتقديمها كهالة تحيط بالشخصية. هذه المفردة لم تقف عند تشكيل معين فتارة تمتلئ مساحة المربع بكتلة, فتصبح هي النصب, مما يعني ان الفضاء ممكن تحديده, وجذبه الى النصب الارض, واخرى يكون المربع اطارا يحيط الرأس فقط فتتكون كتلة سماوية لتنشأ علاقة مع الارضي, وثالثة يكون المربع سجنا او نافذة او بابا يمكن تجاوزه والخروج من سياجه الصارم. وهو هنا بنية ارضية قاهرة. وفي كل هذه الثمات ثمة بنية رياضية تتحكم بسياق توجه التمثال وفي فكرته البنائية وفي الكيفية التي سيكون عليها مستقبلا: في صالة يوضع ام في ساحة.