المقاله تحت باب مقالات فنيه في
22/02/2008 06:00 AM GMT
أربعة اولاد وبنت واحدة ؛ جميعهم يتشابهون في السحنة فلا تكاد تفرق واحدا عن الآخر في المظهر الخارجي ؛ شعورهم سوداء مجعدة ملتفة على بعضها كأنها حزمة متشابكة ؛ وجبهاتهم عالية الوسط منبسطة على الجانبين ؛ اما أنوفــــــــهم فضخامتها مشهود بها ؛ بل هي نسخة طبق الاصل مما كان يتباهى به والدهم بقوله ( شم ألانوف ) . أما اصواتهم المتدهجة المتلعثمة احيانا و الضاحكة كثيرا فهي تمنح المصغين رقة وتقربا .
كان بيت الفنان الحاج( محمد سليم علي الموصلي ) ؛ يعج بالحركة ؛ لما عرف به رب الاسرة من كرم واريحية ؛ .. حدثني سعاد الرسام والمصمم البارع عن اسرته مرة فقال : ( لايكاد المرء يدخل بيتنا القديم الا ويرى بعض الفنانين من زملاء الوالد في الجيش ؛ كمحمد صالح زكي وعاصم عبد الحافظ وعبد القادر رسام ؛ او حتى من الجيل التالي لهم كفتحي صفوت وناصر عوني , بل ولوالدي علاقات متينة ببعض كبار قراء التراتيل الدينية و المقامات العراقية؛ ولطالما رحبنا بهم في بيتنا ) .
فتحت نزيهة عينيها على دنيا زاخرة بالحيوية والتعاطف الاسري المؤطرة بالوان من العشق الحقيقي للفنون ؛ وحينما أختارت الاسرة بيتا حديثا في محلة الوزيرية عاشت نزيهة واشقاؤها بذات العمق من المحبة والتواصل والألفة . في بداية الاربعينات ؛ اصبح ذلك البيت أكثر تطورا مع صيغ الحياة العصرية ؛ حيث حل الراديو الخشبي من نوع ( ويستنجهاوس )على الاسرة كغيث ربيعي منعش ؛ واضافة الى ذلك ؛ فقد افاض جواد على اسرته هو ايضا من ينابيع فنه حينما راح يعزف على الجيتار الحانا من تأليف فنانين عالميين وبخاصة ما حفظه من موسيقا ( الفلمنكو) المشهورة في جنوب اسبانيا . في عام 1947 أكملت نزيهة دراستها في الرسم وتخرجت في معهد الفنون الجميلة ؛ واتيح لها ان تغادر الى فرنسا لاكمال تعليمها شأنها شأن بعض الذين سبقوها ؛ كفائق حسن ؛ وجواد سليم او كالذين زاملوها في تلك الفترة مثل جميل حمودي وحميد المحل واسماعيل الشيخلي ... الخ ؛ وبعد دراسة جادة ونجاح متفوق في فن الرسم ؛ عادت الى بغداد عام 1951 لتندمج في التدريس ؛ ولتتعرف بشكل مباشر على نشاطات التجمعات الفنية ؛ كأصدقاء الفن ؛ والرواد ؛ والانطباعيين ؛ و جماعة بغداد للفن الحديث ؛ فتجد نفسها الاقرب فنيا وتراثيا الى التجمع الاخير الذي كان يقوده شقيقها المثقف المبدع جواد سليم ؛ فشاركت بكل طاقاتها في مختلف المعارض التي اقامتها تلك المجموعة الفعالة النشطة .
اما على الصعيد الاسري فقد كانت قريبة جدا من جميع اشقائها في حياتهم العائلية والاجتماعية ؛ ومن نماذجه هذه اللمحة الخاصة التي لمستها شخصيا : ـ
في جلسة فنية أدبية من عام 1953 اهداني جواد سليم لوحة تخطيطية فريدة بعنوان ( الرحيل عن الوطن) لتأخذ مكانها على غلاف مجلتي ( الاسبوع ) (1) حيث خصص العدد لمحنة اللاجئين الفلسطينيين ؛ وهو ما تبرعنا بريعه لرابطة المناضل الجريح في فلسطين ( 2) ؛ وفي ذات الفترة ؛ نال جواد الجائزة الاولى عربيا ؛ والسادسة عالميا ؛ وذلك عن عمله النحتي المشهور ( السجين السياسي ) من خلال المسابقة الدولية التي اقيمت في ( تيت كلري ) في لندن ؛ فوجدتها فرصة ثمينة لكي افرد له في ذات العدد نصف صفحة عليها صورة ذلك الانجاز مع تفاصيل كافية عن المسابقة ونتائجها المشرفة للعراق . وازاء هذا دعانا جواد الى بيته لقضاء سهرة كريمة بتلك المناسبة ؛ وما كدنا نأخذ اماكننا ؛ حتى دخلت نزيهة وقد بان عليها التعب والارهاق من جراء انجازها لوحة للمعرض القادم ؛ وان هي الا لحظات حتى تحولت نزيهة الى شخصية مرحة لطيفة النكتة نشطة الحركة ؛ بل وتولت ايضا مهمات الضيافة الاساسية لوحدها لكي تفسح المجال لزوجة اخيها الفنانة لورنا لتعزف على الكمان مشاركة زوجها جوادفي عزفه على الجيتار .
وأكثر من ذلك هو ما لاحظته لاحقا اثناء ترددي وزوجتي المستمر على بيت نزار في المنصور فقد كنا قريبين بصداقتنا مع اسرته حيث وجدتها ـ ولاكثر من مرة ـ مندفعة وسباقة بحنان متميز في مشاركتها باعياد ميلاد شقيقها نزار ؛ او زوجــــــــته ( جنهلد ) او اولاده ( رشاد وسليم وريا وربا ) . وما رسائلها المتبادلة مع اشقائها ؛ ألا صورة حقيقية عن مدى اصالة و تلازم هذه الاسرة النموذجية في علاقاتها الحميمية في السراء والضراء وعبر مختلف المناسبات (3)
ان ارتباطها المتين باشقائها الذي اشرنا اليه ؛ لايعنى بتاتا عدم استقلالية شخصيتها في اتخاذ القرارت الخاصة بمواقفها (كما تبادر للبعض )؛ والحادث الذي أروي واقعته هنا مثال واقعي على متانة قناعتها وبمعزل عن اي تأثير جانبي آخر : ـ
تقرر عقد اجتماع لبعض الفنانين التشكيليين في دار الراحل الفنان خالد الجادر يوم 17 /1 /1955 لغرض الاتفاق على تأسيس ( جمعية الفنانيين العراقيين ) وقد لبى حضور هذا اللقاء التأريخي عدد من ابرز الوجوه الفنية وكان عددهم (16 ) فردا ؛ كان من بينهم ا ثلاث سيدات هن ؛ نزيهة سليم و زوجة محمود صبري ؛و عالية القره غولي ؛ وبعد نقاش وتداول وافق االمجتمعون على التقدم الى وزارة للموافقة على اجازة الجمعية . . وكان الملفت للنظر هو توقيع نزيهة سليم على المحضر لقناعتها بما جاء فيه ومن دون الرجوع الى اشقائها الفنانين ( سعاد ؛ جواد ؛ نزار ) كما توقع الآخرون (4)
لقد كانت نزيهة سليم شديدة الالتزام بالمشاركة في مختلف معارض الرسم داخل العراق او خارجه ومع انها قضت زمنا طويلا في اوربا ؛ الا انها بقيت نبعا صافيا من ينابيع العراق في الفكرة ؛ والاسلوب ؛ واللون ؛ فلو نظرت الى لوحاتها التي امتلأ بها بيتها في الوزيرية وفاض على مئات المعارض ؛ لوجدتها متفردة ا ليس في اختيارها للمرأة العراقية في لوحاتها وحسب ؛ بل وفي مختلف مواضيع الطبيعة او المحلات البغدادية او الحياة الاسرية او الموروث الشعبي حيث اضفت على كثير من لوحاتها الوانا زاهية براقة نابعة من ذاتها وخزينها المتراكم ؛ وان براعتها في كل هذه الاوجه يضاف اليها اجادتها المشهورة في رسم لوحات (البورتريت ) . ومنها تلك اللوحة الفريدة التي رسمتها لزوجتي عام 1992 ووشحتها بتوقيعها.. والتي ما زلنا نحتفظ بها فخـــرا واعتزازا في صدر غرفة الجلوس . كان آخر لقاء لي مع نزيهة سليم وانا اودع الوطن ؛ في ذات البيت من حي الوزيرية ؛.. والذي التقينا به كثيراكما أسلفت ؛ كانت هذه الزيارة ( الوداعية ) مع صديقي الاقتصادي الآكاديمي الدكتور طارق العزاوي والذي كانت اسرته هو الآخر مجاورة لآل سليم في ذات الحي ؛ ما كدنا ندخل البيت الغارق باللوحات المنجزة وتلك التي اجلت موعدها مع الفرشاة الى زمن مجهول ؛ حتى التقيناها (مع شقيقها الفنان الكبير سعاد سليم )؛ وهي لاتستطيع ان تتحرك الا بصعوبة بالغة من كثرما عانت من اوصاب وامراض ومحن ؛ في تلك اللحظة المؤلمة وانا انظر اليها وهي مهدمة متداعية : مرت على الذاكرة صورتها مع ست من زميلاتها ( فراشات الخمسينات) وهن بملابسهن العصرية الملونة الزاهية لتأدية دورهن كتشريفات في حفلة البولو التي اقيمت برعاية الملك فيصل الثاني في بداية عام 1957والتي خصص ريعها لدعم جمعية الفنانين العراقيين .
وقبل ايام ؛ ودعتنا الفنانة الكبيرة الرائدة نزيهة سليم ؛ بعد ان تركت أورادها الزيتية الملونة وهي تنثر شذاها على النادر مما تبقى من لوحاتها اللائذة بالطبيعة الخلابة ؛ والهاربة الى عوالم الحرية ..بعيدا ... بعيدا ...عن وحوش غابة النهب .
|