سعدي الكعبي يصور عذابات الإنسان بالتشكيل الغرائبي

المقاله تحت باب  محور النقد
في 
24/02/2008 06:00 AM
GMT



تمثل تجربة الفنان العراقي سعدي الكعبي حالة متميزة في المشهد التشكيلي العربي والعالمي، لا العراقي وحسب، وقد كان معرضه ''صحراويات'' في ''جرين آرت جاليري'' في دبي فرصة للاطلاع على تجربته التي ظل يطورها منذ الخمسينات، وهو المولود في منطقة النجف في العراق عام ،1937 ودرس الفن في العراق وفي المملكة العربية السعودية. كما أنه أحد الروّاد في الفن العراقي المعاصر. وقد ضم المعرض أكثر من عشرين لوحة هي خلاصة التجارب الأخيرة للفنان. ويصور فيها مشهداً واحداً متكرراً في فصوله، حيث تتمازج التكعيبات بين ثنايا الأجساد وتكرارها في أكثر من مشهد، إن دلّ على شيء فهو يشي بمشهدية متكررة، تتداخل فيه الأجساد الضخمة المتهدلة أو المهدودة، الأنثوي منها والذكوري.

ما يميز أعمال الكعبي القويّة التي تبدو بسيطة ظاهرياً، أنها تمتلئ بالأشكال الهندسية التي يطبّق عليها الفنان أسلوب تغيير الأشكال، حيث تنبثق مثل الأشجار من قاعدة لوحة الرسم وتتوالد الواحدة من الأخرى. وما بين الواقعية التعبيرية وبين السوريالية تتخذ أجساد البشر في لوحاته أشكالا غرائبية تعبر عن رؤية الفنان للعالم من حوله، حيث الإيحاء بالخوف والرعب.

كما يتنقل الفنان بريشته وألوانه من الترابي الممزوج بالأخضر والأصفر، إلى ألوان قاتمة أحيانا، ليقدم مشهدا بشريا بتعبيرات مخيفة، حيث تتداخل الأجساد وتسيل على بعضها بعضا. ويلجأ الفنان كذلك إلى الكتابة بالحروف العربية حينا، وبحروف غير مفهومة حينا آخر. تبدو لوحة الكعبي وكأنها سطح لرقيم أو مخطوط قديم، تنبثق منه تلك الوجوه المعذبة، التي تظهر وكأن الفنان يحفرها بيديه وليس بالريشة. فهي وجوه مكسوة بألوان أحادية من الرمادي الرصاصي أو الترابي، بما يوحي بأنها قادمة من أزمنة سحيقة وضائعة، حيث لا حدود تفصل بين شواهد المعاناة في تراب التاريخ وعراء الأجساد في الزمن البابلي الراهن.

ليتخذ الرسم أكثر فأكثر ألوان الغياب. كما يبرز في أعمال الكعبي عبر تجربته الطويلة - مثلما يرى بعض نقاده - موضوع البعد الثالث، وذلك من خلال تجسيد الأشكال المرسومة في نتوءات المادة ونفورها عن السطح العام للوحة، وهي مسألة هامة في التناغم مع النور من ناحية، ومع الملمس التشكيلي الصرف، وهنا تقترب صفات اللوحة الزيتية من صفات المنحوتة الجدارية (الباريليف). ويسهم اللون كذلك في إعطاء البروز حضوراً يدعم قوته التعبيرية. وتتوزع في لوحة الكعبي الأشكال الإنسانية والهندسية والعناصر الأخرى، وتحيط بها جميعا خطوط بارزة تغنيها المادة الفنية ويمسحها اللون بهالة من القدم، بينما تتسربل وجوه الأشخاص ورؤوسهم بالغموض والغرابة. وبهذا نفهم القوة الجاذبة في هذا الفن الذي يتشابه في دوره الثقافي مع بعض الفلسفات المعروفة. فهو يفرض عليك الانجذاب إليه عبر جماليته التشكيلية المتفردة. وبالعودة إلى تجربة الكعبي في مرحلة الخمسينيات والستينيات، يشار إلى أن أسلوبه كان يتأرجح بين التعبيرية والتكعيبية والتجريدية مع اعتماد خفي على الرمز. وكل ذلك كان متصلاً اتصالاً عضوياً بالشكل، أكثر من صلته بالمضمون وهنا أود أن أشير إلى الدور الكبير الذي يلعبه الاختزال في أعماله. لكن يظل الموضوع بصورة عامة منطلقاً من الريف ومناخه الطبيعي والإنساني. إلا أن عملية التبسيط والاختزال ظلت تدفع في الغالب إلى تكثيف المفهوم وتحميل العنصر التشكيلي مهمة التعبير المضاعف، ليصبح غموضه سبباً منطقياً للالتجاء إلى القيمة الجمالية الخالصة. وهذا يؤدي إلى اتخاذ الأشكال طابعا خاصاً يكمن فيه سر الغنى وأحياناً الازدواجيات في التعبير التشكيلي. لكن هذا لا يتحقق إلا عبر أبعاد رياضية تخترق فضاءات اللوحة في مختلف الاتجاهات. بالنسبة إلى معالجة الكعبي واستخدامه الخط في عمله التشكيلي، فهي برزت بصورة تدريجية على شكل وحدات زخرفية بهدف إغناء اللوحة، ثم تطور حضور الحروف والكلمات في لوحاته حتى أصبحت تظهر في أفاريز تقطع اللوحة أفقيا أوعمودياً. ثم تبلورت في ما بعد داخل أشكال هندسية مختلفة متشابكة لوحدها عبر تقنية فنية خاصة به. وهو لم يستخدم الخط والكتابة العربية في لوحاته كحشوات تزيينية يستعين بها لملء الفراغات وتحقيق التوازن التشكيلي، على حساب المضمون أو القيمة الجمالية المعبرة، بل على العكس من هذا فقد أعطى لهذا النوع من الاستلهام شيئاً من الهيبة والتقديس خصوصا حين نجده في بعض لوحاته يكتفي بالتقطيعات التي تملؤها الكتابات وتعترضها الحروف في جو تشكيلي رفيع المستوى.

ويصف التشكيلي والناقد جميل حمودي أعمال الكعبي بالقول: إن المأساة تظهر في لوحاته نظيفة صافية صعيدها البساطة، وركائزها تقاليد وهبتها الطبيعة للإنسان في وحدته التي تظل تسير به نحو ذلك الهدف الذي يقصده مهما ابتعد مادامت الشمس تغذيه بالنور، وينتقل الفنان من تكوين إلى تكوين ومن مناخ فني إلى مناخ آخر، ومن منطلق إلى آخر عبر مادة فنية هيأتها لمسته هو، وكأنها جزء لا يتجزأ من العمل الفني الذي يبدأ بالقماشة التي يقوم بإعدادها هو قبل غمس فرشاته باللون الذي هو الآخر لا يسلم من لمساته. وهل هذا غير طبيعي بالنسبة لفنان يشعر بمسؤوليته الإبداعية متكاملة.
 
 
عن الاتحاد