رحيل سيدني بولاك عن ثلاثة وسبعين عاماً

المقاله تحت باب  فنون عالمية
في 
28/05/2008 06:00 AM
GMT



جاء رحيل المخرج السينمائي سيدني بولاك أمس مفاجئاً لأنه على الرغم من معاناته من مرض السرطان ومن سنيه الثلاث والسبعين لم يفقد حيوية شبابية ارتسمت على ملامح وجهه البشوش وتمثلت في انتصاب قامته المديدة. وربما كان لرحيله وقع مختلف إذ انه بين مجايليه السينمائيين لم يُعرف مخرجاً خلف الكاميرا فقط، بل ان لوجهه حضور في الذاكرة بسبب الادوار التمثيلية الكثيرة التي جسدها. لعله لم يكن نجماً ولا ممثلاً اولاً في تلك الافلام ولكن حضوره بدا دوماً مميزاً لا يملأه سواه. كأنه نسج صورة متكاملة في ذاكرة السينما تجاور فيها الملموس بغير الملموس. ولعل فيلمه الأخير الوثائقي "اسكتشات فرانك جهري" مثال حي على ذلك. صحيح ان بولاك لم يكن ممثلاً في الفيلم بل كان المخرج الذي يتورط في صنع فيلم عن صديق آثر فيه ان يكون باحثاً وسائلاً ومشاركاً في هواجس العمل وشخصية المعماري جهري على نحو يجعل من البورتريهِ الخاص به رحلة تتقارب فيها هواجس الرجلين وتتباعد وتتقاطع مهنتيهما: الهندسة المعمارية والسينما.
تميز بولاك بإدارته لممثليه منتزعاً أفضل أداءاتهم في أفلامه مديراً آمثال ميريل ستريب وداستن هوفمن وباربرا سترايسند وروبرت ريدفورد وروبرت ميتشم وآخرين في مسيرة سينمائية امتدت لنحو أربعين عاماً. بالعودة الى بدايات هذا السينمائي الذي اشتهر بأفلامه البسيطة والذكية، يمكن العثور على جذور ذلك التاثير الكبير الذي خلفه في ممثليه تحديداً. ذلك ان بداياته كانت بدايات شاب يحلم بالتمثيل بما حمله الى الانتقال الى نيويورك حيث انتسب الى معهد 7-7-نايبرهود بلايهاوس7-7- وتتلمذ على يد مدرب التمثيل الشهير سانفورد مايزنر الذي ما لبث ان جعله مساعده الخاص فدرّس تعاليم مايزنر لأمثال روبرت دوفال. مبكراً، أدرك الشاب ان التمثيل لن يكون خياره الأمثل في زمن الابطال الوسيمين وفتيان الشاشة الاوائل بسبب ملامحه الخاصة. على الرغم من ذلك، ظهر في بعض الادوار التلفزيونية بادارة المخرج جون فرانكنهايمر مواظباً معه على مهنة تدريب الممثلين في التلفزيون لبعض الوقت. كان بورت لانكاستر الذي لعب أمامه بولاك دوراً تمثيلياً في السلسلة التلفزيونية "المتوحشون الصغار" عام 1961 هو الذي شجعه على خوض تجربة الاخراج التلفزيوني وأوصى به لو واسرمن رئيس استديوات يونيفرسل وقتذاك. لم يقم واسرمن يتنازل كبير عندما سمح لبولاك بإخراج حلقة من سلسلة Shotgun Slade الويسترن لأم الأخير كان بحكم الميت وعلى لائحة الالغاء. ولكن بالنسبة الى بولاك كانت الفرصة ذهبية فاقتنصها وحقق النجاح ليتفرغ خلال السنوات الخمس المقبلة بين 1961 و1966 للاخراج التلفزيوني على سلسلات ناجحة من نوع Ben Casey وThe Defenders وAlfred Hitchcock Presents وبالطبع أنجحها Bob Hope Presents the Chrysler Theater الذي حاز عنه جائزة إيمي.
بهذا المعنى، كان الانتقال الى هوليوود خطوة طبيعية وقطفاً لثمار نجاحه التلفزيوني. فكانت تجربته السينمائية الاولى 1965 The Slender Thread دراما انسانية تشويقية عن طبيب متمرن يتلقى اتصالاً من امرأة على شفير الانتحار. لعب بطولة الشريط سيدني بواتييه وآن بانكروفت. مشروعه التالي The property Is Condemned كان ليقع في النسيان الى الابد لولا انه كان بداية تعاونه مع الممثل روبرت ريدفورد التي سيمتد لستة أفلام مقبلة.
يمكن القول ان النجاح السينمائي الاول الذي قطفه بولاك كان في العام 1969 بفيلم They Shoot Horses, Don't They? الذي دارت أحداثه حول ماراثون للرقص ينتهي بجريمة قتل ابان مرحلة الكساد الاقتصادي. جلب الفيلم لمخرجه اول ترشيح للاوسكار من ضمن سبعة ترشيحات نالها العمل. فيلمه التالي، Jeremiah Johnson، عام 1972 مع ريدفورد ايضاً حقق نجاحاً جماهيرياً كبيراً حيث بدا موضوع الويسترن اللافظ للكولونيالية ملائماً للمناخ السياسي المناهض لحرب فييتنام وقتذاك. في مشروعه التالي، أثبت بولاك انه مخرج متنوع وجماهيري انما على درجة من الرصانة والجدية ربما لا تحاكي معاصريه من حيث السخرية والنقد الواضح والذهنية المعقدة كما تمثلت لدى فرانسيس فورد كوبولا ومارتن سكورسيزي واوليفر ستون وايضاً روبرت آلتمن. ولكنه لعب دور الوسيط الدائم بين سياسة هوليوود الترفيهية بامتياز وقناعاته الخاصة. كان The way We Werer قصة حب رومنسية بين ريدفورد وباربرا سترايسند في ظل الاختلافات السياسية وتحول الازمان والمفاهيم. قبل نهاية عقد السبعينيات، سجل بولاك تجريته السينمائية السياسية بامتياز في فيلم Three Days of the Condor عام 1975 عن عميل في وكالة الاستخبارات يطارد قاتل شريكه. وكانت التجربة الثالثة مع روبرت ريدفورد.
لا شك في ان سيدني بولاك كان مخرجاً مثمراً بما يفرض الكثير من الزلات. ولكن عقد الثمانينات كان الاغزر بالنسبة اليه فافتتحه بثلاثية ثبتت موقعه: The Absence of Malice (1981 وTootsie و1985 Out of Africa. في الاول، حكاية صحافية تحقق في جريمة قتل مع سالي فيلد وبول نيومن. اما الثاني فكان كوميديا ساخرة لعب بطولتها داستن هوفمن في دور ممثل مبتدىء يقرر التنكر في زي امرأة لتحقيق قفزة في مهنته. ومن مفارقات العمل انه أعاد بولاك الى التمثيل بعد غياب نحو عشرين عاماً في دور وكيل اعمال الممثل ويُحكى ان ظهوره التمثيلي جاء على أثر توسلات هوفمن من دون ان تغيب الشائعات عن الخلافات التي نشبت بين الاثنين ابان التصوير ولكنها ما كانت الا لتضيف القاً الى المشاهد التي جمعتهما سوياً على الشاشة. حقق الفيلم جماهيرية كبيرة ضاهت شهرة the way We Were وحاز عشرة ترشيحات لجوائز الاوسكار من بينها ثاني ترشيح لبولاك. أخيراً جاء الفوز بالاوسكار مع Out of Africa مع ميريل ستريب وريدفورد والذي مازال يُعتقد انه أشهر الافلام التي حققها المخرج.
خلال مسيرته، يمكن الوقوع على ما يشبه النهج الذي رافق انتاجات بولاك والقائم على تداول الجيد والسيء لمسيرته. هكذا كان يقع في المطبات السينمائية على اثر كل تجربة ناجحة كما هي الحال بعد the way we were الذي أعقبه The Yakuza وThree Days Of the Condor الذي انزلق بعده الى the Electric Horseman. ولكن الصدمة التي تلقاها بعد Havana (1990) كانت الاعنف. ففي ما يشبه المحاكاة للفيلم الكلاسيكي الشهير Casablanca، قاد ريدفورد في دور مقامر ساخر يقع في حب زوجة أحد قادة الثورة في كوبا عام 1958. كانت ردة فعل الصحافة قاسية وكذلك شباك التذاكر فركن المخرج لبعض الوقت قبل ان ينتقل الى مشروعه التالي المقتبس عن رواية جون غريشام الاكثر مبيعاً The Firm (1993). لم يكن الشريط الذي يروي تورط محامٍ شاب فب شركة قانونية ذات صلة بالجرائم المنظمة استثنائياً ولكنه حاز جماهيرية واسعة غالب الظن ان سببها الرئيسي كان نجومية ممثله توم كروز.
منذ منتصف الثمانينات، أنشأ المخرج شركته الانتاجية "ميراج انتريرايزس" التي شارك من خلاله في انتاج عدد كبير من الافلام الناجحة جماهيرياً ونقدياً كذلك كثف ظهوره التمثيلي فشارك في شريط وودي آلن Husbands and Wives وظهر في فيلم روبرت آلتمن The Player وفي آخر أعمال ستانلي كيوبريك Eyes Wide Shut من دون ان يتوقف عن اخراج الافلام فصنع Sabrina 1995و1999 Random Hearts. ومن اواخر مشاركاته التمثيلية دروه في فيلم Michael Clayton الى جانب جورج كلوني ومساهمته في انتاجه.
اتسمت الافلام التي أنتجها منذ مطلع الالفية الثالثة بقيامها على أداءات تمثيلية مهمة من مثل مشاركته في انتاج: خمي _خعيفشهى للراحل انتوني مينغيللا وiris مع جودي دينش وكايت بلانشيت وthe Quiet American مع مايكل كاين في الدور الاساسي. وبعد ابتعاد بضع سنوات عن الاخراج، عاد في العام 2005 بفيلم The Interpreter الذي كان آخر ما أخرجه الى جانب الوثائقي Sketches of Frank Gehry. استُقبل الاول بمزيج من الاعجاب والفتور وظلت حكاياته الخلفية الاكثر حضوراً ومن ذلك انه اول فيلم صور في مقر الامم المتحدة. في اطار قريب من The Three days of the Condor، دارThe Interpreter حول المترجمة نيكول كيدمن في هيئة الامم المتحدة التي تستمع صدفة الى حوار يتضمن خطة لاغتيال احد رؤساء دول العالم الثالث لتبدأ بعدها محاولات تفكيك المؤامرة على يد المحقق شون بن الذي سيكتشف الكثير عن ماضي المترجمة السري.
برحيل سيدني بولاك تخسر هوليوود احد مخرجيها الجادين ومنتجيها الدافعين باتجاه سينما المؤلف والممثل وممثلاً كان ظهوره في افلام اصدقائه اشارة الى انها افلام من طراز خاص.