المقاله تحت باب فنون عالمية في
21/07/2008 06:00 AM GMT
في عام 1964، أصدر الفنان السرّيالي الكبير سلفادور دالي كتاباً بعنوان «يوميات عبقري» لدى دار «الطاولة المستديرة» (باريس)، وهو كناية عن دفتر يوميات يغطّي المرحلة الممتدة من عام 1953 الى عام 1963 من حياته، ويُشكّل تكملة لسيرته الذاتية التي صدرت بعنوان «حياة سلفادور دالي السرّية». ونظراً الى أهمية الكتاب وشهرة صاحبه، نفدت نسخه في العام ذاته من دون أن تقوم دار النشر المذكورة بإعادة طبعه. وهذا بالتأكيد ما دفع دار «غاليمار» الباريسية إلى شراء حقوق نشره وإلى إصداره من جديد مرفقاً بفيلم «كلب أندلسي» (1929) الرائع الذي شارك دالي مع المخرج السينمائي الكبير لويس بونويل في تحقيقه. نتعرّف في هذا الكتاب الذي يقع في نحو 300 صفحة على أفكار دالي وشواغله كفنانٍ وظروف لقاءاته مع أبرز شخصيات عصره ومواقفه الجمالية والأخلاقية والفلسفية والبيولوجية، الأمر الذي يمكّننا من فهم شخصيته المثيرة والمعقّدة ومن التعمّق في منهج عمله الفني الذي أطلق عليه اسم «الذهان التأويلي النقدي»، وبالتالي من تحديد طبيعة عبقريته التي سعى طوال حياته إلى إبرازها وإلى الترويج لها. ومن أبرز الموضوعات التي يتناولها في هذا الكتاب: إلحاده في بداية مساره النابع من قراءته للكتب التي كانت موجودة في مكتبة أبيه، سرّياليته التي لم تكن تعرف أي إكراهٍ جمالي أو أخلاقي، نزعة التفوّق لديه التي استمدّها من كتب نيتشه، حبّه المفرط لزوجته غالا، تفضيله التقليد على الحداثة والنظام الملكي على الديموقراطية والصوفية على المادية الجدلية، احترامه الكبير لأندريه بروتون ونشاطه الفكري وقيمه على رغم موقف هذا الأخير السلبي منه بعد عام 1934، احتقاره أرباب الوجودية ونجاحاتهم «المسرحية والمرحلية»، ولعه بالرسام رافاييل، «الجانب الفينيقي» من دمه، على حد قوله، الذي جعله يحب الفيلسوف أوغست كونت الذي وضع المصرفيين في المرتبة الأولى من المجتمع... باختصار، تشكّل هذه اليوميات «صرحاً» شيّده الفنان لمجده الخاص ومن دون أي تواضعٍ منه، ولكن بصراحةٍ كبيرة تلطّف غروره اللامحدود. ففيها، يكشف دالي عن أسراره من دون إي حياءٍ وبطرافةٍ فريدةٍ وجنون جامحٍ. ولهذا، لدى قراءتها، لا نعود نعرف هل علينا أن نثمِّن هذه الصراحة الجريئة داخل انعدام تواضعه أم العكس. وبروايته حياته اليومية، استبق الفنان كتّاب سيرته وسحب البساط من تحت أرجلهم. ولكن، أليس هو الشخص الأجدر للتكلم عن نفسه؟ لا أحد تجرأ خلال حياة دالي وبعد وفاته على التشكيك بحقّه في ذلك، خصوصاً أنه تحدّث عن ذاته في شكلٍ مسهب وفي تفاصيل غزيرة وذكاء كبير، ولكن أيضاً بغنائيته الجذابة والمعهودة. يظن معظمنا أنه يعرف هذا المبدع لأنه اختار طوعاً أن يكون فناناً شعبياً وشهيراً. وفي هذا السياق، تهافت الصحافيون على كل ما كان يصرّح لهم به. ولكن في النهاية، ما يفاجئنا في هذا الكتاب هو صواب أفكاره وملاحظاته حول الأمور الكثيرة التي كانت تثير انتباهه وفضوله. أما أكثر ما يثيرنا ويجذبنا في شخصيته التي تتجلى أبعادها الكثيرة خلال الكتاب فهي جذوره و «مجسّاته»: جذورٌ تغوص عميقاً تحت الأرض بحثاً عن كل ما استطاع الإنسان إنتاجه طوال حقبة من الرسم والنحت والهندسة، ومجسّاتٌ موجّهة نحو المستقبل لتنشّقه والتنبّؤ به وفهمه بسرعةٍ خاطفة. ولن نقول كم كان دالي يتمتّع بفضولٍ علمي لا يُروى. فجميع الاكتشافات تظهر في شكلٍ أو في آخر في أعماله وكتاباته. بل يبدو الفنان متقدّماً على العلوم التي «تنبّأ» في شكلٍ غير عقلاني بطريقة تطوّرها العقلانية. وغالباً ما سبقته ابتكاراته الخاصة وانتظمت من دون أن يعي ذلك أو يسعى إليه. وبعد أن عبر في بداياته مرحلة ريبة وشك من الآخرين بإمكاناته وإنجازاته، بلغت أعماله شهرةً قل نظيرها، ولم تعد أفكاره التي أطلقها في شكلٍ فوضوي وبلا أي ترتيب في حاجة اليه كي تأخذ شكلاً وتحيا. لكن «يوميات عبقري» هي قبل أي شيء عمل ذو قيمة أدبية كبيرة. فدالي يتمتع بموهبة خارقة في التصوير بواسطة الكلمات أيضاً وبفن الحكم على الأشياء والأفكار بسرعةٍ وقوةٍ نادرتين، كما أن كتابته تتميز بذلك الألق والتجديد اللذين نعثر عليهما في لوحاته. وهذا ما يحوّل الكتاب إلى وثيقةٍ في غاية الأهمية حول فنانٍ ثوري أصيل وحول ذهنٍ خصب يعجّ بالإشراقات والابتكارات. ومن المؤكّد أن هواة الأدب والفن ذوي الأحاسيس القوية والعلماء النفسيين الذين لم يقرأوه بعد سيولعون بصفحاته، التي تعكس نبوغ ذلك العملاق الذي قال يوماً:»الفرق الوحيد بيني وبين المجنون هو أني لستُ مجنوناً». أما فيلم (DVD) «كلبٌ أندلسي» المرفق مع الكتاب فيُعتبر أوّل عمل سينمائي سرّيالي، وقد أخرجه لويس بونويل بعد أن كتب السيناريو مع دالي خلال ستة أيام فقط على طريقة «الجثة اللذيذة»، أي ضمن أسلوبٍ تتوالى الصور المزعجة أو المقلقة فيه في شكلٍ آلي وبلا أي ترتيبٍ منطقي، الأمر الذي يُرهِق شخصيتي الفيلم الرئيستين (بيار باتشيف وسيمون ماروي) ومشاهديه أيضاً.
|