المقاله تحت باب فنون عالمية في
21/07/2008 06:00 AM GMT
يفتح معرض ''غواية الشرق: أعمال الفنانين المستشرقين البريطانيين'' ملف الفنانين البريطانيين وعلاقتهم بثقافة شعوب المنطقة والطبيعة الممتدة بين الشرق الاوسط والشرق الادنى أو شرق المتوسط، في الفترة ما بين 1700 ـ ،1920 وهي الفترة التي عرفت تاريخيا في بريطانيا بالعصر الفيكتوري الذي شهد توسعا في ارجاع مستعمراته وتدخلاته العسكرية. المعرض المقام في لندن بمتحف ''تيت غاليري'' الشهير، يضع المشاهد امام جدل مع مقولات ادوارد سعيد ورفاقه الاكاديميين من بعده حول مفهوم ''الاستشراق'' الغربي في الفنون والدراسات الاوروبية، وانه لا يمكن عزله عن سياق سياسي ثقافي أوسع. سعيد قال ان الاكزوتيكية التي ارتبطت بالشرق هي من صنع خيال الفنانين، وقد خلقت الارضية الثقافية للهيمنة الاستعمارية عليه لاحقا. فمع نهاية عام 1920 كانت الامبراطورية البريطانية تسيطر على حزء مهم من أراضي الامبراطورية العثمانية المتهالكة، وسيطرت فرنسا وايطاليا على الاجزاء المتبقية من الخريطة العربية. وللغرابة فان زمن لوحات المعرض تتوقف أيضا عند هذا العام.
تتصدر القاعة الاولى للمعرض لافتة تقول ان البريطانيين لم يعتادوا قبل القرن الثامن عشر أن يزوروا الشرق والاراضي الاسلامية الا ضمن حملات الحروب والبعثات الدينية أو ضمن اطار البعثات الدبلوماسية. لكن توسع النشاط الاستعماري واختراع الآلة البخارية التي سهلت التنقل بالسفن البحرية والقطارات، رفعت من وتيرة الزوار الى الشرق، وبشكل خاص لدى الفنانين الذين كانوا يتزودون بالصور والاخيلة ليعودوا الى مجتمعهم بالقصص والحكايات المثيرة المترجمة بصريا، وكانت تلك الاعمال تعرض للعامة في صالات فنية شهيرة، من بينها المعرض السنوي للأكاديمية الملكية للفنون في لندن. اما البلدان التي تطالها اعمال المستشرقين فهي تحديدا سورية، فلسطين، مصر، تركيا والجزء الاوروبي من الامبراطورية العثمانية، مثل مدينة سراييفو.
تأتي قوة تأثير تلك الاعمال بثباتها وبطء تغيرها كصورة نمطية عن الشرق، في عصر لم تكن الصورة على ما هي عليه الان من تغير وتبدل وتعدد مصادر قد تدحض واحدتها الاخرى.
لقد اعتمدت لوحات الفنانين المستشرقين كصورة ثابتة لهذا الشرق الروحاني المتلون الجاذبية والمختلف تماما عن اوروبا الصناعية والعقلانية. في المعرض نقرأ أسماء فنانين لا يعتبرهم النقاد الفنيين من عمالقة الفن التشكيلي تاريخيا ولكنهم رسموا لوحات متميزة ابهجت العرض الحالي في تيت غاليري، من هؤلاء الثلاثي: وليم هولمان هانت، ديفيد روبرتس، وجون فرديريك لويس، وهو ثلاثي يشكل اهم المستشرقين البريطانيين وان كان البعض يعتبر ان لويس اهمهم (1805 ـ 1876)، فقد أقام فعليا في القاهرة عشر سنوات في أربعينيات القرن التاسع عشر واستأجر بيتا رسمه في لوحاته يعكس الحياة اليومية للبيت المصري من خدمة وطهي طعام وتنظيف.
كما إنه صور نفسه عام 1860 بما يشبه بورتريه شخصي في لوحة تمثله كتاجر سجاد في خان الخليلي يرتدي العمامة والملابس المحلية، كما كان الرحالة من ابناء جلدته يفعلون عادة.
لقد أجاد لويس تقديم التفاصيل الدقيقة في الازياء والعمارة فأظهر جمالية فن الارابيسك في البيوت المصرية والاثاث المنجز بالطريقة نفسها. على ان فنانين بريطانيين آخرين اثروا اللوحات في هذا المجال أمثال ديفيد ويلكي، ريتشارد داد، لورد ليتون، والشاعر ادوارد لير، وآخرين.
بورتريهات غربية
ما يميز المعرض تنظيميا أنه قسم إلى خمسة ثيمات موزعة على خمس صالات، وهي البورتريهات، المناظر الطبيعية، المواقع الدينية، التفاصيل المحلية، والنساء أو اللوحات التي تناولت موضوعة الحريم والحرملك. لقد كان بعض البريطانيين يحبون ان يرسموا بملابس عربية او فارسية او تركية، وفي هذا القسم تظهر تفاصيل غريبة عن المجتمع البريطاني مثل العباءات والعمائم والطرابيش، اضافة بالطبع لبورتريهات شخصيات عربية واسلامية شهيرة، ومن هو أشهر من محمد علي باشا بلوحة تظهر كامل تفاصيل جسده وهو على كرسي العرش يمتشق سيفه عام 1841 بريشة ديفيد ويلكي.
في هذا القسم نشاهد بورتريهات لدبلوماسيين او شخصيات لعبت دورا في السياسة البريطانية مثل تي اس لورنس، المشهور باسم لورنس العرب، بملابس البدوي العربي عام 1919 بريشة الرسام اوغوستوس جون، او الشاعر لورد بيرون بملابس ألبانية شعبية تخص الطائفة المسيحية. او لوحة للرسام جيمس سانت تصور حاكم الهند عن الامبراطورية البريطانية كولونيل كولينز ماكنزي (1754 ـ 1821).
في المعرض الاهم من نوعه حتى الان، 120 عملا ما بين تخطيط ورسم زيتي ومائي، اضافة الى صور فوتوغرافية تعود الى فترة اختراع الكاميرا، جمعت من شتى المتاحف البريطانية العامة والخاصة، ومن بينها ثلاثة اعمال لم يكن منظمو المعرض يعرفون أين هي، وتبين انها في متحف قطر للاستشراق الذي لم يفتتح للجمهور بعد فاستعيرت منه، وايضا هناك اعمال قليلة تم استعارتها من متحف الشارقة. تعكس تلك اللوحات الحياة اليومية في المدن والمناطق التي زارها الفنانون البريطانيون تحديدا: حمامات عامة وأسواق، وأماكن عبادة من كنائس ومساجد وقبة الصخرة في القدس، ثم المناظر الطبيعية المحيطة بالمدن، مثل الجبال المحيطة بالقدس، او بقايا الاثار الرومانية في بعلبك وتدمر. هناك توثيق أيضا لعمارة تلك المدن وديكورات بيوتها وانسجة الملابس والستائر والافرشة، تتبع مساقط الضوء المتسرب من فتحات شيش النوافذ او اسقف الاسواق في خان الخليلي وغيره، والسجاد الشرقي بألوانه الحارة وزخارفه الجذابة خصوصا في اللوحات التي تتوقف عند البيع والشراء.
عوالم الحريم الضبابية
لان اقتحام عالم النساء في البلدان الاسلامية كان من بين المستحيلات تقريبا، اعتمد بعض الفنانين على وصف النساء اللواتي بصحبتهن لتلك الاماكن المحرمة على الرجال. وقد تزوج بعضهم، مثل لويس، من إحدى بنات بلده وزرع في المجتمع المصري والتركي عينا أنثوية تتجسس له في الاقسام النسائية للقصور والبيوتات الكبرى، بما أطلق عليه ''الحرملك'' كعالم منعزل مقهور، من غير أن ينتبه إلى أن تلك المنطقة الحرم تحمي خصوصية النساء وتسور عوالمهن بالستر. إن تركيز الرجل الاوروبي على هذه الجوانب في الشرق تلمّع من صورة الرجل الاوروبي وموقفه من المرأة بالمقارنة مع الرجل الشرقي!. والفرنسيون برعوا كثيرا في هذه المنطقة فنجد ما يطلق عليه باسم (أوضاليسك) اي فن الرسم الايروتيكي المستوحى من حجرات الجواري ونساء القصور، والكلمة مأخوذة بالاساس من كلمة ''أوضة'' باللغة التركية، اي حجرة. في المعرض لوحة للفنانة هنرييت بروان بعنوان ''الزيارة ''1861 قدمت من خلالها تفاصيل استقبال امرأة تركية من الطبقة الارستقراطية لضيفاتها.
لا بد ان كثيرا من لوحات الاستشراق تحركت بتأثير من عوالم حكايات ''الف ليلة وليلة''، أو رأت الشرق من هذا المنظور من غير ان تحاول محاكمة الواقع بمنظور جديد. هناك تركيز على الحجاب واليشمك على الوجوه، الملابس الفضفاضة من الحرائر، العلاقة بين تلك النساء، النمائم والاجساد المسترخية على الارائك في الحرملك، دروس في الموسيقى والعزف على العود او القيثارة، وغيره من تفاصيل.
وفي لوحات المستشرقين التي تدور في قصور اسطنبول العثمانية، مثل أعمال الفرنسي انغرز، هناك تركيز على نساء من الجنس الابيض ضمن حريم السلطان، ما يبدو انه لعب على مسألة العرق والجنس، فمعروف أن بعض النساء من الرقيق في الامبراطورية العثمانية كن من أصول اوروبية تم بيعهن في سوق النخاسة، لكن كثير من الباحثين الاجتماعيين والمؤرخين يؤكدون ان النسبة الاكبر من النساء البيضاوات كن من العنصر القوقازي الشركسي المشهورات بجمالهن. وضمن هذا السياق يمكن رؤية لوحة ''سيدة ارمينية.. رسالة حب'' لفريدريك لويس رسمها في القاهرة، وهي من مقتنيات متحف قطر.
التاريخ يعيد نفسه
في اللوحات التي تتناول المواقع الدينية المقدسة خصوصا في فلسطين، يبرز ديفيد روبرتس الاسكتلندي الاصل الاكثر تعاطفا وهو يرسم (كنيسة المهد 1841) والاراضي المحيطة بالقدس، كذلك رسمه لمدينة بعلبك باطلالها الرومانية ومعالم مصر المهمة. إن في رسومه ورسوم زملائه ما يؤكد ان تلك البلاد كانت عامرة بالبشر والحياة المدنية.
في لوحة ''الدخول الى جبل الهيكل ''1886 للفنان الالماني غوستاف بورنفيند، نرى جدلا بين مسلمين ويهود بلباسهم التقليدي حول السماح لليهود بالدخول عبر مسجد الاقصى الى الهيكل اليهودي. بورنفيند يرسم أيضا مشاهد من أسواق حيفا ويهود عند حائط المبكى والجامع الاموي في دمشق. وهناك أعمال للفنان والشاعر ادوارد لير صاحب لوحة (دمشق 1861) التي كانت بين اللوحات المقتناة من قبل افراد وغابت عن المشهد الفني طويلا في بريطانيا، الى ان ظهرت ضمن مقتنيات متحف قطر واقرضت للمعرض الحالي ليراها الزوار للمرة الاولى في بريطانيا.
الافتتان بالعمارة الاسلامية
الاهتمام بالتفاصيل المعمارية الخارجية والداخلية للمدن الشرقية الاسلامية عكست هوس الفنانين البريطانيين المستشرقين بالعمارة الاسلامية التي عدت من بين أفضل أساليب العمارة التي أنتجتها الحضارة الانسانية. يمكن تتبع التفاصيل من خلال الدخول إلى الأسواق الشعبية القديمة في القاهرة ودمشق والقدس واسطنبول، والساحات العامة التي تعج بالحركة. ويمكن اعتبار لوحات مثل تلك التي رسمها لويس لسوق خان الخليلي، أو آرثر ميلفيل للبيوت المصرية من الداخل، مثال على ذلك الانبهار باسلوب العمارة.
المعرض بأعماله المتنوعة في مجال اللوحات الفنية الاستشراقية، وامام حقيقة ندرة الفرص للاطلاع عليها وجها لوجه، تبدو هذه الفرصة متعة حقيقية للزائر الذي يجد نفسه في مواجهة التاريخ والانتاج الفني والتحديات الثقافية.
وسيخرج الزائر بانطباع ان هؤلاء الفنانين ارشفوا لكثير من التفاصيل المادية من ملابس وعمارة ومكونات محلية، هذا صحيح، لكنهم كانوا ايضا يتخيلون او يتوهمون ثقافة شعوب تلك البلاد. واذا عرفنا انهم في عصر لم تكن فيه وسائل الاعلام مثل اليوم من اخبار وصور ثابتة ومتحركة، فان غالبيتهم المطلقة كانت تعود الى بلدانها ''لتنزل'' من ذاكرتها التفاصيل التي مرت بها، او تعبئ الاسكتشات الاولية التي وضعت على الورق هناك لتستكمل كلوحات بعد سنوات احيانا من كثرة اللوحات المطلوبة تجاريا. فالى اي مدى يمكن للذاكرة ان تبقى وفية ولا يشوبها الوهم؟
ان مشاهدة اللوحات البريطانية التي صورت الشرق وبعض اللوحات الاوروبية التي توفرت في المعرض، تذكر بكيفية تعامل الاوروبي مع الاخر المختلف عنه في الثقافة، والذي بقي كما يبدو عالما مجهولا وغرائبيا يستحق الفرجة ونسج الاساطير حوله، وما استوعب الفنان الغربي في كثير من الاحيان خصوصية المجتمعات المختلفة عنه.
وعلى الزائر ان يكون حذرا، كما ينبه مسؤول المعرض دكتور ترومانز، من ''أن يرى هذه الاعمال كنوع من الفن الهابط، او أنها بعض من بقايا الامبراطورية البريطانية''. انها فعلا شاهد على عصر يساعد الغرب والشرق معا على إعادة فتح النقاش حول مفهوم الاستشراق ودور المستشرقين في الترويج لصور نمطية عن العرب والمسلمين.
كتاب الاستشراق لادوارد سعيد صدر عام ،1978 وهاهو معرض ''غواية الشرق'' يأتي امتحانا للكتاب بعد ثلاثين عاما على صدوره.
|