المقاله تحت باب  سينما و مسرح
في  13/09/2008 06:00 AM
GMT

لا يريد قيس الزبيدي أن ينسب إلى وطن محدّد، يرى أنّ وطنه الحقيقي هو السينما، غادر العراق منذ 1960 ولم يعد إليه إلا في مناسبتين، درس وعمل في ألمانيا واكتسب جنسيتها، لكنه لم يصبح ألمانياً. انتمى إلى فلسطين عبر السينما وأنجز أفلاماً عن مأساتها، لكنها ظلّت وطناً بعيداً. يعيش منذ سنوات في سوريا وأنجز معظم أفلامه هناك، لكنه لم يتأقلم تماماً مع نمط الحياة في سوريا، كما أنه لا يقيم طوال الوقت في بلاد الشام. هو كما يرى مواطن في دولة متخيّلة هي السينما، لا تمتلك حدوداً ولا تطلب من مواطنيها أوراقاً ثبوتية.
ومع ذلك، فإقامته في دولة السينما لم تكن سعيدة دائماً. معظم أفلام الزبيدي جاءت من مشاكل أو سبّبت مشاكل. فيلمه الروائي الوحيد (اليازرلي) الذي أخرجه في سوريا عام 1974 عن قصة قصيرة لحنا مينه، مُنع من العرض بسبب مشاهد إيروتيكية. ورغم انّه أعاد «مَنتجته» وحذف بعض اللقطات التي عُدّت «ساخنة»، وحاول أن يعيد توليفها من جديد، بقي الفيلم في الظل ولم يعرض إلّا في المهرجانات... بعد ذلك اتّجه نهائياً إلى السينما التسجيلية، وتخصّص تحديداً في القضية الفلسطينية وصار من روّاد السينما الفلسطينيّة. أنتج سلسلة أفلام منها: «شهادة الأطفال في زمن الحرب»، «وطن الأسلاك الشائكة» و«بعيداً عن الوطن». ويعلّق على الفيلم الأخير الذي أخرجه عام 1969: «أصبح الفيلم يعبّر عن حالتي، فيه أطفال من المخيمات يتحدثون عن وطن صار بعيداً، أنا الآن أتحدث عن وطن كهذا. ماذا سأفعل في وطن لم يعد لي فيه أحد؟ بغداد التي ولدتُ فيها وأعرفها تغيّرت. نشأت بدلاً عنها قرية كبيرة بلا ملامح، انتقل أغلب أفراد عائلتي وأصدقائي إلى الخارج».
فكّر قيس في إخراج فيلم عن العراق، لكنّه لا يريد أن يتناول الوضع هناك بطريقة مباشرة. «القنوات التلفزيونية الإخبارية والمسلسلات لم توفّر شيئاً، دخلت في كل جوانب الحياة. مشاهد القتل والدمار والتعذيب أصبحت مألوفة ولا تلفت انتباه أحد. عليّ أن أبحث عن جوانب أخرى، لديّ رغبة في تحقيق فيلم عن تاريخ العراق الحديث. ليس تسجيلياً خالصاً، على غرار فيلم «معركة تشيلي». فيلم يسجِّل في مقدمته نبذة عن بناء الدولة في العراق حتى انهيار النظام الملكي. ثم رصد المرحلة الممتدة من 1958 حتى سقوط نظام صدام حسين».
يفكّر الزبيدي في أفلام أخرى في الإطار نفسه... لكن أين التمويل؟ السينما التسجيلية التي يحاول صناعتها كما يقول لا تعجب الجهات الإنتاجية: ليس فيها «بروباغاندا» ولا تلتزم شروطاً مسبّقة. لذا، «المشاكل تلاحقني دائماً، يهمّني أن أشتغل من دون شروط مالية ولا فكرية لكن كيف؟ لديّ فيلم عن جورج حبش أنجزتُ مادته الأولية وأخذت موافقات على إخراجه. الفيلم يستعيد سيرة ذلك الرجل العظيم، ما كان حلمه؟ وكيف كان يفكّر؟ وهل ذهبت أحلامه الكبرى مع رحيله؟ حاولت أن أحصل على تمويل عربي ففشلت. وبالطبع فإن الأوروبيين لم يقتنعوا بجدوى الفيلم».
لكنّ الإحباطات المتلاحقة لم تؤدّ بقيس الزبيدي إلى التخلّي عن شروطه كي يعمل بأي ثمن. وهو لا يتبرأ من أفلامه، ولا ينظر إليها كجزء من الماضي: إنّها تمثله. لم يضطر إلى إخراج فيلم رغماً عنه، وبلا اختيار أو تحضير مسبّق، أو بحثاً عن مقابل مادي... مع أنه مرّ أحياناً في ظروف معيشية صعبة: «لدي مبدأ تبلور من خلال تجربتي. السينما صورة، وينبغي أن تكون صادرة عن خيالي أنا، لا عن خيال الآخر الذي ربما يناقضني في أفكاري وفي رؤاي». هذا لا يستطيعه المخرجون حين تسيطر الدولة على الإنتاج السينمائي حسبما يقول. «في العراق مثلاً أُنتجت أفلام كثيرة عن الحرب مع إيران، وعن الحصار، وعن مشكلات الواقع... ما الذي بقي منها؟ أعتقد لا شيء، رغم وجود الكثير من السينمائيين الممتازين هناك، بدءاً بمحمد شكري جميل وهو يمتلك مخيلة سينمائي كبير ومقدرته. هناك في المقابل أفلام عراقية ظلّت في الذاكرة، مع أنّها أنتجت بإمكانات بدائية في الخمسينيات والستينيات: «من المسؤول» (1957) «سعيد أفندي» (1958)، «الحارس» (1967). رأيتُ أفلاماً عراقية جديدة أعجبتني أيضاً مثل «غير صالح للعرض» لعدي رشيد، والفيلم الوثائقي الذي أنجزه محمد الدراجي عن ظروف إنتاج فيلمه «أحلام». هناك أيضاً «16 ساعة في بغداد» لطارق هاشم المقيم في هولندا. كما ينبغي التوقّف أيضاً عند تجربة قاسم عبد، المقيم في لندن، الذي حاز فيلمه «يوميّات ما بعد السقوط» الجائزة الكبرى في «مهرجان ميونيخ للأفلام التسجيلية» هذا العام.
ويعبّر هنا عن استعداده للعمل مع جميع السينمائيين في العراق: «حاولت باستمرار أن أدعم التجارب الجديدة، عملت «مونتيراً» لأفلام مخرجين سوريين مهمين، مثل محمد ملص ونبيل المالح وعمر أميرالاي. ظلت صلتي دائمة بالسينما من خلال المونتاج».
الكتابة النظرية هي الأخرى تجعله في الجو السينمائي، صدر له عام 2006 كتاب مرجعي بعنوان «فلسطين في السينما» يوثّق التجارب السينمائية التي تناولت القضية على مختلف مراحل الصراع. الكتاب يلخِّص تجربة خاضها قبل سنوات لتأسيس سينماتيك فلسطيني بدعم أوروبي. لكنّ الدعم انتهى والمشروع لم يكتمل، وسيظل مصيره مجهولاً. ولديه كتاب آخر صدر عام 2001 بعنوان «بنية المسلسل الدرامي التلفزيوني» هو أشبه بدليل للكتّاب الذين يريدون الدخول إلى عالم الكتابة التلفزيونية. وحالياً، يكتب مقالات متسلسلة عن السينما في الصحافة الخليجية ويفكر في إصدارها في كتاب عندما تكتمل.
أما على صعيد الإخراج، فأنجز أخيراً فيلماً لقناة «الجزيرة» عن الدراما السورية، يبحث عن جوهر هذه الظاهرة ويقدم رؤية عن كواليسها: كيف يعمل المصوّرون ومصمّمو الديكور والملابس ومؤلفو الموسيقى، عبر مراجعة لأبرز ما أنجز من مسلسلات وكيف جرى إنتاجها؟ يتضمن الفيلم لقاءات مع حاتم علي وأسامة أنور عكاشة ومحفوظ عبد الرحمن. أنجز الزبيدي أيضاً تسعة أفلام تحت عنوان «مياه قيد الاحتلال» كل منها عن نهر محتل. السلسلة عموماً تتحدث عن الصراع على المياه بين إسرائيل والدول العربية، كما شارك في سلسلة أفلام أخرى عن الذين يسكنون على الحدود... إذ صوّر حياة أناس يعيشون في قرية بين لبنان وسوريا، فإذا بهم أكثر من جيران، بينهم زيجات وعلاقات وحياة مشتركة.
أفكاره لا تنضب. هناك مشاريع عدة لأفلام مقبلة، لكنّ المشكلة هي البحث عن تمويل: «اعتدتُ مشاكل الإنتاج، بل مشاكل ما بعد الإنتاج. لقد تعرّضت للنقد حتى من الأطراف التي أتعاطف معها، وأعدّ نفسي جزءاً من قضيتها. انتقد الفلسطينيون فيلمي «وطن الأسلاك الشائكة» لأنني أظهرت الأطفال في المستعمرات الصهيونية في منتهى الترف والتحضّر، بينما أظهرت الأطفال الفلسطينيين بمظاهر عُدّت سيئة وحولهم الوحول والذباب. أليس هذا الواقع؟ قلت للمنتقدين، إن الصراع هنا صراع وجود لا صراع مظاهر. لا يمكن مطلقاً أن ترضي الجمهور، يا صديقي في تلك الحالة!... بدك تحكيلو زي ما بيريد، وهذا ما لا أقدر عليه».