تجربة التّشكيليّة العراقيّة بتول الفكيكي

المقاله تحت باب  محور النقد
في 
02/11/2008 06:00 AM
GMT



 
 تستمرّ تجربة الفنّانة بتول الفكيكى فى التّواصل مع الموروث الفنّى العراقى الحديث، حيث تُعلى بشكل دامغ من انتمائها إلى المشهد التّشكيلى العراقى رغم استقرارها منذ أكثر من خمس عشرة سنة فى بريطانيا.
هذا الفضاء المحمّل بإغراءات فنيّة ومفعم بتيّارات وموجات ما بعد حداثيّة كثيرا ما أثّرت فى المشهد التّشكيلى العربى فما بالك بسلطة تأثيرها على الفنّان العربى الذى يحيا فى صلب دوّامتها، إلاّ أنّ الفكيكى لم تنجذب إلى ما يطرأ سنويّا من متغيّرات الفنّ المعاصر و"تقليعاته" بل إنّها واصلت حفر نهرها غير عابئة برياح تحطيم مقولات الفنّ.
 
وإذا ما ذهب الفنّان العربى إلى استقدام "الهابنينغ" و"البرفورمانس"و"فنّ التّنصيبة" فإنّها بقيت محافظة على فهمها للعمل الفنّى باعتباره "لوحة" و"نافذة" مطلّة على العالم وعلى الذّات، والتزمت بفنّ التّصوير التزامها باللّون وقدرته على إكساب العمل الفنّى جماليّته ورؤيته الآنيّة والمستقبليّة للإنسان العربي.
 
وتمثّل هذه المحافظة موقفا تقنيّا ووجوديّا إزاء ما يتناثر فى العالم من حمّى اقتلاع "اللّوحة" وإلقائها فى مزبلة تاريخ الفنّ، وإن كانت هذه الدّعوى قائمة منذ بداية القرن العشرين ومستفحلة أكثر فى نهاياته ، فإنّ الإصرار على التّمسّك باللّوحة المسنديّة يعدُّ خيارا فنّيّا بدرجة أولى، وموقفا رافضا للانصياع إلى هذه المتغيّرات.
 
وتأخذ سمة المحافظة شكل الثّابت البنائى فى تجربة الفكيكي، إنّنا أمام خيط رابط، من عمل إلى آخر، ومن حقبة إلى أخرى، فلا يكون الانقطاع لديها نهائيّا وإنّما ينبنى على الاتّصال والتّوالد العجيب، وهو ما يقودنا إلى استجلاء نواة ينبوعيّة للتّجربة ما تفتأ تلد العمل تلو الآخر، فينهض الأسلوب الفنّى من رحم واحد بمثل ما تكون الفكرة الأمّ هى الرّحم المركزى لجميع الأعمال الفنّيّة.
وبقدر ما تعيدنا جميع الأعمال إلى رؤية عميقة مركزيّة ومستبدّة بتفاصيل التّجربة، فإنّها تسمح بالتّنويع فى الاستخدامات اللّونيّة خاصّة وفى طرق التّعامل مع العناصر التّشكيليّة.
 
تبيّن تجربة بتول الفكيكى مجازيّا أنّها شجرة بشتّى المعاني، فلا يمكن اليوم أن ننظر إلى المشهد التّشكيلى العراقى الحديث دون أن تقف أمامنا تجربتها بثقلها التّاريخى والرّمزي، فبعد ليلى العطّار تقف بتول فى واجهة هذا المشهد، وإذا كانت يد الغدر قد سرقت العطّار من الحياة أى عطّلت تجربتها الفنّيّة إلى الأبد وهى فى أوج العطاء فإنّ بتول ما تزال تشاكس غدر الزّمان و المكان لتضاعف من تفتّق تجربتها.
 
ولا يعنى أنّها تنتمى إلى هذه الدّائرة التى يريد بعض مؤرّخى الفنّ جرّها إليها، أى دائرة الفنّ النّسائى العراقي، بل إنّها تكسر هذا الطّوق، ولا تستسيغه بمعناه الاختزالي، فكونها امرأة مبدعة وسط حشود الذّكوريّة العربيّة شبه المطلقة فهى لا تنغلق على "نسويّة" مرَضيّة رغم ما يمكن أن تلهبه تيمة "المرأة" فى أعمالها الفنّيّة، وإذا ما اعتبرناها واحدة من أهمّ الرّسّامات العراقيّات فى تاريخ الفنّ التّشكيلى العراقي، فلأنّها مضت فى تأصيل تجربتها الفنّيّة، منطلقة من رؤية للعمل الفنّى ومن استقراء للوضع التّشكيلى العراقي، وهو ما بلور لديها مشروعا فنّيّا له مقوّماته الأسلوبيّة وامتداداته فى كلّ فترات تجربتها، فما يميّزها عن غيرها هو هذا الامتداد الجمالى من السّبعينات إلى الآن فى إطار المحافظة على نهج أسلوبى يكثّف من الشّفافيّة ومن عشق الألوان وتوليد ممكنات اللّون الواحد بتفريعاته وباستدعاء العلامات والرّموز إلى درجة بلوغ العمل الفنّى طور "المنسوج الرّمزي" الذى يغتنى بالسّرد فى تشخيصيّة جديدة تجمع بين مباشرة المرجع والانقطاع عنه فى الوقت نفسه.
 
وما يزيد فى إكساب هذا الامتداد سلطته على التّجربة عدم تغافله على المتغيّرات الحضاريّة التى عايشتها الفنّانة قبل وبعد الغزو الأمريكى لبلدها، إذ أنّ عالمها موشوم بالحدث الحضارى الذى لا تكون الوقائع التّاريخيّة سوى شرارات منه.
 
ولم يدفعها "المنفى الاختيارى والاضطراري" فى آن واحد أن تنعزل تماما عن العالم فى أوّل حياتها بلندن وهو ما جعلها تشارك فى المهرجانات الدّوليّة وتعرض أعمالها فى معارض فرديّة وجماعيّة، وإن احتجبت نسبيّا فى بعض السّنوات وانقطعت عن هذه المشاركات فذلك كان من باب اعتكاف المتصوّف الذى يخلد إلى مزاره/مرسمه لمجاهدة تجربته وللتّرقّى إلى مدارج العرفان، وسريعا ما عادت بتول إلى غمرة حضورها، وبين الحضور والغياب فى تجربتها حياةً وممارسة فنيّة إنّما تختزل "النّسغ العشتاري" فى نبض فعاليّتها الإبداعيّة.
 
هناك إقرار متواصل بالينبوع الأوّل لفكرة القداسة متمحورا حول المرأة/الأمّ/الآلهة الأولى فى الفكر الجمعى الرّافدينى والإنسانى عموما، وهو ما لا يمكن إنكاره أو تجاوزه، ولكنّ هذه المرأة التى تستحضر فى داخلها كلّيّةَ العناصر بماهى "حاكمة ما فى السّماوات من فوق وما فى الجحيم من تحت، مركز القوّة الرّبّانيّة" تجسّد فى الأعمال الفنيّة لعبة الخفاء والتّجلّي، إنّه تجلّيها فوق الأرض وخفاؤها فى العوالم السّفليّة، وقد برزت فى المراحل الأولى من التّجربة الفنّيّة بفعل "تخلّق" العمل الفنّي، أى ولادته، فالعمل الفنّى لا يحيل على مرجعيّة خارجه فحسب وإنّما يسرد أيضا قصّة ولادته هو بالذّات، وهذا ما يعدُّ أساس العمليّة الإبداعيّة.
 
إنّ ما يشغل الفنّانة ليس فعل الإحالة على ما هو خارج اللّوحة فقط ولكن إظهار تفكيرها المستمرّ فى بناء عالم اللّوحة، ويأخذ هذا التّفكير بعدا إنشائيّا يتقاطع فيه الوعى باللاّوعي، الوعى بالولادة المستمرّة و بحلول العمل الفنّى فى العالم الدّنيوي، واللاّوعى بملامسة غيب العمل الفنّى الذى نختزله فى الإدراك التّشكيلي، والذّاكرة البصريّة والثقافيّة للفنّانة، ويجمع هذا اللاّوعى طبقات حضاريّة فى كيان الفنّانة. من الصّائب الاعتراف بالقاع الأسطورى الذى يستدعيه العمل الفنّى فتحضر العناصر الأسطوريّة من شخوص ومفردات علاميّة وروحيّة ممتلئة بالحلم والواقع فى آن واحد. تحضر"عشتار" بمثل ما يحضر"تمّوز"، ولكنّه حضور يطرح الأسطورة جانبا، فلا تتماهى الأعمال الفنّيّة مع محتوى الأساطير، بقدر ما تولّد أسطورتها الخاصّة، فبين المرأة والرّجل فى لعبة التّشكيل أكثر ممّا بين الكائنين فى لعبة الأسطورة.
 
وإذ تبقى المرأة مثالا مركزيّا للحضور، فإنّه حضور مُرتعب وأليم فى الغالب، ذاك ما يصوّره ظهورها فى العمل الفنّي، بل ذاك ما تنتهى إليه اللّوحة وقد استحالت شيئين عجيبين أوّلهما أنّها "فضاء مشهدي" وثانيهما أنّها "جسد" ،ولكن يأتى حضور المرأة مفتقرا إلى الحركة، كأنّها كائن استاتيكى وهو وجه من وجوه ألمها، ولهذا فهى نقيض الأسطورة.
 
إنّ المرأة الأسطوريّة لها قدسيّة فى ذاتها وفى سياق انبثاقها، ولدى متلقّيها، أمّا امرأة بتول الفكيكى فهى تستبطن الشّعور القاسى والمشترك مع غالبيّة النّساء العربيّات بأنّهنّ مازلن رمزيّا فى طور "الموؤودة"، فيكون العالم الأسطوريُّ عالما واهيا أمام ما يحدث فى الواقع، وبهذا حاولت الفكيكى أن تجمع بين تمويه الانتماء إلى أسطوريّة خالصة وبين الانتساب اللاّمشروط إلى أديم الأرض العربيّة وهواء السّماء العربيّة، وليست الغاية من استدعاء ما هو أسطورى الانغراس فى الخطاب التّأصيلى وإنّما الانطلاق من عصر كانت فيه المرأة ، المقدّس بامتياز بينما هى فى الوطن العربى بشكل عامّ ما تزال مُدانة وما يزال جسدها موشوما بكلّ علامات التّأخّر رغم كلّ المساحيق القانونيّة والتّشريعيّة المتناثرة هنا وهناك لأنّ المشكل الدّامى هو سيادة النّظرة الدّونيّة للمرأة على أرض الواقع ورضوخ المجتمع لحالة المفارقة بين تشريع حالم وواقع كابوسي.
 
المرأة /الجسد فى الإرث الأسطورى ينبوع الخصب والحياة والقداسة، صورة منتهكة فى الواقع المعاصر للمرأة العربيّة. بدأ تجلّى المرأة فى ظلّ تشخيصيّة حالمة، ساعدتها الشّفافيّة والألوان ذات الانسيابيّة من مضاعفة الحلم، وتخصيب الذاكرة، وإن كان العنصر الرّجالى يحضر ويغيب فى مجمل الأعمال ويقف دوما فى المستوى الثّانى لسطح اللّوحة وهو اختيار جمالى ومعرفي، فإنّ وجوده مرتهن دائما بوجود المرأة لأنّه لا يحضر مفردا أو وحيدا، إنّ وجوده المشروط بالمرأة يُدخله إلى "حرم المرأة" فتنقلب المواضعات لتشير إلى عودة"المكبوت"، المرأة من الهامش إلى المركز، والرّجل من السّياديّة إلى الارتهان، وربّما قد يستشفّ المشاهد نوعا من التّغنّى النّسوى برياديّة المرأة فى ظاهر الرّؤية الفنيّة، ولكنّ ذلك ليس صحيحا لأنّ التّلويح بالحضور المكتنز للعنصر النّسائى لا يحمل إقصاء للعنصر الرّجالي، بل هناك تكامل خاصّة فى المراحل الأولى من التّجربة وقد يعزى انفراد "المرأة" بالظّهور فى الأعمال الأخيرة إلى تحوّل فى الرّؤية من ثنائيّة الوجود إلى غربة الجسد الطّعين، ومن التّكامل الذى قد كان ظاهريّا ومحكوما بالشّرط الأسطوري"تمّوز/عشتار" وبالشّرط الواقعى الاجتماعي، إلى إعلان اللّوحة/العالم الكيانى للفنّانة بسرابيّة ما هو أسطورى وتلاشى ماهو اجتماعي، وكأنّ اضمحلال التّكامل أكّد خيبة الوصال فى عالم كلّ ما فيه يعلن عن الانشطار.
 
تلازم الألوان التّرابيّة أغلب ردهات التجربة، معلنة بذلك انتماء عالم الفنّانة إلى الأرض، ولكنّ الشّروخ والصّدوع هى سمة هذا العالم/هذه الأرض، ومهما ذهب تكوين العناصر إلى استدعاء العناصر النّباتيّة والأشجار ذات الهالة القدسيّة، فإنّ مفهوم الخصوبة موهوم بسبب "زلزلة الأرض"، وهو ما يُغدق على اللّوحة بعدها الحركى فالعالم الفنّى ثابت من حيث حضور العناصر المتكرّرة:"المرأة"، "الرّجل"، النّبات" الأشجار"، الأرض"، "الجدار"، ولكنّه دينامى فى مستوى بنائيّة هذه العناصر التى تلتقى فى بؤرة الانكسار والتّصدّع.
 
وبمثل ما يكون العالم التّكوينى مصابا بهذه الدّيناميّة وهذه الشّروخ بشكل مشترك ومجمّع، فإنّ عددا كبيرا من اللّوحات يُفرد لهذه العناصر استقلالها عن الأخرى ليكون التّصدّع مصيرا جماعيّا وفرديّا فى الوقت نفسه، وكأنّ خراب الجماعة مُؤذنٌ بخراب الذّات.
 
يغيب الوجه والرّأس، لا يبقى غير الجسد، بل إنّه يكاد يغيب ليحضر الأثر: الوشم والنّقوش. ها هو الجسد يتحوّل إلى ما يشبه الأشلاء.
 
يتحوّل الجسد فى اللّوحة العربيّة إلى صراخ، فليست لوحة فرانسيس بيكون وحدها قادرة على استنطاق الألم الإنساني، وإذا كان بيكون يواجه رعب الواقع الإنسانى برعب تمثيل الوجه والأجساد وكأنّها قطع لحم مقطّعة، فإنّ حساسيّة بتول الفكيكى الفنّيّة جعلت من رعب الجسد أكثر نعومة؟ فِعْلاً، من غرابة تمثيل الجسد أن يكون موشوما بالجراح والمآسى وفى الوقت نفسه ناعما بشفافيّة الألوان، أليس وشم الجسد العربى اليوم من قبل قوى الاستعمار الجديد يتمّ بطريقة ناعمة، ألا يذبّح الفلسطينيّون أمام كاميرات عصر الشّاشة الأمريكى ونرى الأشلاء تعرض فى شاشات التّلفزيون ونحن بصدد تناول وجبات الطّعام؟ أليس هناك ما هو أنعم من هذه الميتات وألطف من هذا التّلقّي؟
ألسنا نتابع يوميّا أحداث التّفجيرات فى أرجاء العراق ونرى الدّم وهو فى أقصى نعومته يمسح بلزوجته الطّرقات، ونحن بالطّبع نواصل الأكل؟ ماذا عن لوحة بتول التى تختزل كلّ نعومة القتلة، وتردى القتيل/الجسد العربى طريّا إلى حدود عشق القاتل لضحيّته؟
 
بعد سلسلة من الأعمال التى اقتصرت فيها بتول الفكيكى على تنويع آثار المتغيّرات على الوجه، تواجه بتول عالما من غير وجه، الجسد كفيل بأن يكون اليوم هو الهويّة، ولكن أيّ نوع من الهويّة وسط خراب العالم؟ وبعدما كان الجسد الأنثوى قرينا لجسد تمّوز هاهو وحده يواجه عذاب الواقع، أعلنت بتول الفكيكى انتهاء عصر الأسطوريّات القديمة، أمام تلاشى الماضى السّعيد وتوارى زمنيّة الإيروس، هو الموت وحده يزحف، هى اللّوحة العربيّة تتخلّص من التّشخيصيّة التّقليديّة لتنغمس فى عذاب الكيان العربي.
_________________
 شاعر وجامعى من تونس.