المقاله تحت باب محور النقد في
11/11/2008 06:00 AM GMT
علي النجار ـ المولود عام 1940 ببغداد- واحد من أبرز ممثلي الحداثة العراقية في الفن التشكيلي، حاصل على دبلوم معهد الفنون الجميلة بمسقط رأسه منذ عام 1961 وأستاذ سابق لمادة الفنون. يقيم راهنا بجنوب السويد وهو عضو شبكة الفنانين الأجانب في أوروبا التي تضم ما يزيد عن مئة تشكيلي عربي وأوروبي، ويديرها الفنان عبد الأمير الخطيب من هولندا. يجمع بكثير من الإبداع بين التصوير الصباغي والكتابة في مجال اشتغاله وفي رصيده العديد من المعارض التشكيلية الدولية ببلدان عربية وأوروبية وأمريكية.
1ـ كائنات هلامية:
يجمع الفنان علي النجار في أعماله الصباغية بين التعبيرية الرمزية والسريالية الجديدة والتجريد اللوني، وسنائده متعددة كرحلاته وأبحاثه الجمالية، ومنها القماش الرقيق والورق والخيش والطين وستائر الموسلين.. رسم الكثير من الموضوعات المستمدة من عوالم نباتية وحيوانية بصيغ رمزية، قبل أن يتحوّل الأسلوب التعبيري لديه تدريجيا ليستقر في شكل حبريات ملوَّنة تتخذ شكل المتاهة البصرية. ومنذ إقامته بالسويد عام 1997، أنجز الفنان منشآت وتنصيبات- Installations جسّد الكثير منها في شكل أسرّة مرضى عليها أشخاص مفترضون رسمهم الفنان ببعدين قبل أن يربطهم بأنابيب العلاج وأكياس التطبيب.. عقب ذلك، وتحديدا عام 1997، أنجز مجموعة من الحبريات بالأردن، وخلال السنوات اللاحقة أعاد الشيء نفسه بأوروبا والمغرب، ولا سيما بالرباط التي يعشقها بشكل نادر. وببلاد الغربة أيضا، أنجز سلسلة أعمال تلوينية أطلق عليها تسمية االأقنعةب وقد حوَّل فيها الألم وحدود الفاجع إلى ألوان معبّرة وصريحة تخبئ وراءها مواضيع مركبة يصعب فك مغاليقها بسهولة.. ألوان اصطلاحية تمتح جذورها من مخزون الذاكرة المشتركة الذي حمله معه إلى المهجر. وفضلا عن ذلك، كتب علي النجار عن الحرب العدوانية التي فرضت على بلاده وما أوحته إليه: ابلغ الأمر ذروته بإطلاق حكومتنا التي استمدت تفويضها من الحزب ومدعية مرة أخرى من الله، صواريخها في صحراء النقب. كان يسكن معي إبني مازن فقط والذي جلب للبيت قناعا واحدا واقيا من الغازات استلمه من كلية الفنون التي كان يدرس فيها حينذاك. ما يؤرقني وقتها حصة من هذا القناع إذا ما دعت الحاجة إليه لتلافي تسممنا حينما تحين ساعته. حسنا أنا تجاوزت الخمسين وشبعت من متاعب الكبر قبل الأوان ومن حجم متاعب عمري التي أورثتها حقبنا العراقية الغير سوية.. إذن ليكن القناع له ولا فائدة ترجى من سدّ منافذ فجوات منزلي، فلا بد للغاز من أن يتسرب. كان القناع شاخصا وكنت اختلس إليه النظر لأدرك أننا مجرد أقنعة اخترقتها غازات شتى، روائح لا تعد نحاول جهد إمكاننا أن نستنشق أفضلها في أخريات أزمنتنا عسى ولعل أن نديم حلمنا الأولب. قال عنه الفنان ستار كاووش: ايعمل الفنان علي النجار، هذا الفنان الستيني في منطقة خاصة جدا، ولا يشبه أي فنان عراقي آخر. فالغرائبية في أعماله وإيقاعات اللون السحرية تجعلنا لا نستطيع الإمساك بمرجعيات محددة، ولا يمكننا كذلك وضع أعماله ضمن اتجاه بعينه، فهل أعماله سوريالية أم تعبيرية؟.. واقعية سحرية أم بدائية؟.. تجريدية أم تجريدية تعبيرية؟.. أعتقد أن كل ذلك موجود في لوحاته بشكل من الأشكالب. على إيقاع هذا التنويع المادوي والتيماتي، ينجح الفنان النجار في إبداع أعمال فنية مضمرة ومواربة تتميّز بمزيج من الكائنات العضوية والهلامية التي تذوب وسط توليفات لونية مليئة بالإحساسات والنوازع الذاتية. فهي- الكائنات- تمتد لتجارب الفنان الدائمة وترسم ما تبقى لديه من زمن المرض. وبقدر ما هي كائنات هلامية، هي أيضا أجساد تحمل أسرارا غامضة وتتحرّك داخل مسالك تجديدية مصاغة بألوان قوية ومواد تلوينية زيتية ونباتية ذات طبيعة كيميائية وفلزية. فظهور الجسد في اللوحات الصباغية للفنان علي النجار، هو بداية التحوّل في تجربته الجمالية، أي منذ تعرّضه لمرض خطير كاد أن يعصف بحياته لولا لطف الخالق ومؤازرة الإخوة والأصدقاء. يتذكر الفنان بحسرة: افي أواسط آب (أغسطس) عام 1993، فاجأني الطبيب وهو يؤشر إلى علبة تحتوي نسيجا إسفنجيا معتما بقوله: إنه ورم كبير.. تفحصته، ليس هو جسدا، لا لحما، ولا عصبا، هذا النسيج الإسفنجي كان بحجم ستة سنتمترات تقريبا يستقر على منضدة قرب سريري.. هذا الوحش الذي ابتز خلايا جسدي وأرهقني. إنه ميت هنا، وديع بملمس ناعم بغرابة تخلف رعشة في الأنامل. لم يعدني الطبيب بشيء قبل ظهور نتائج التحاليل المختبرية.. لم أكن متفائلا ولا متشائما. كانت لي سيرة حياة سابقة غير مستقرة علمتني امتصاص العديد من المفاجآت واستيعاب مسبباتها بوقت مناسب. بعد أسبوعين، استلمت نتيجة التحليل المختبري الذي أكد وجود سرطان المثانة. بدأت تحضيراتي لعملية استئصال المثانة.. كنت حينها كمن يذهب إلى فراغ مع شعور بغصة خفية وعلي أن أتنفس بعمق لإزالة ذلك الشعور. في بداية أيلول (سبتمبر) من نفس العام، استؤصلت المثانة. دخلت بعدها زمنا جديدا، زمن علي أن أتعايش فيه بما توفر لي من مخلفات سابقة. لم تكن العملية هينة.. فقدت خلال زمنها عشرة كيلوغرامات من وزني وكانت إفاقتي من التخدير غيبوبة أخرى مررت بها بثقل وعتمة الموت.. كان حلما لا ينسى. كنت أعاني من آلام شديدة وعدم القدرة على النوم مطلقا لخمسة عشر يوما. ما خفف عني هو مؤازرة كل من زوجتي وأخواتي وأصدقائي الفنانين وغيرهم، كان لعطفهم ورعايتهم أثر كبير في تحملي لصعوبات تلك الأيام. بعد هذه الفترة الزمنية، لم أترك وسيلة لاسترداد عافيتي إلا استعملتها. لم يكن الأمر خاليا من الخسارات الجسدية والعاطفية، لكن إرادة الحياة تغلّبت أخيراب.. خلال مرحلة الألم، كان الفنان النجار شجاعا وحوّل المرض إلى محفز إبداعي: اأنت هنا وأنا هنا كتوأمين: دعنا نتعايش سوية، لست موجودا بدوني فأنا حاملك الذي لم يكل، ولست موجودا بدونك أنت في أحشائي كما تحمل الثمرة بذرتها، سأروضك وأجعل من قتامة المرض والخوف مصدرا لأجمل الألوان والتكويناتب..
2ـ عنوان الحياة المتجدّد..
عاش الفنان علي النجار تجربة المرض المؤدي إلى الموت.. بل إنه ذاق الموت نفسه، لكن إصراره على العيش والإبداع كان كبيرا. فهو يدرك أن الموت إحساس كاسر بالفناء وسفر إلى الخلود وانتقال حتمي إلى الحياة البرزخية.. لذلك جاءت لوحاته مليئة بالكثير من العلامات والأدلة الأيقونية التي تشير إلى طبيعة الأزمة التي كان يكابدها، فتصدر الجسد موضوعاته بتعبيرية واسعة امتزج فيها التشخيص بالتجريد.. والتجريد بالتشخيص. الجسد في لوحات الفنان النجار عنوان الحياة المتجدّد والمتكرّر على إيقاع العيش في بيئة محاصرة بالغموض والإلغاز.. ومع ذلك، فالأمل هو االسبيل الملكيب- Voie royale الذي يسلكه الفنان للانتصار لمشاريعه الجمالية الموسومة بالشساعة والمطلق. فهو يمقت الاكتظاظ وحشو اللوحة بالتفاصيل الزائدة والمجانية- أو مقاومة الاستلاب المكاني بتعبــير الفنان المفضل-، ويميـــل كثيرا إلى خلق مساحات فارغة داخل السنـــد.. فضاءات الصمت والتأمل وإعادة طرح الأسئلة بصيغ بصرية متحوّلة. من ثم، أمست لوحاته تتفرّد بوجود بياضات تبريرية، بمعنى الفراغ، تشكل المحيط الذاتي الذي يؤطر أفكاره ورسائله الأيقونية. يلتقط أشياءه من المخيلة التي لم تغادر البيئة بشكل كامل، ليشرع في البحث عن حاضن بيئي جديد لها.. وأجساده استثنائية لا تسعفها المواساة ومنذورة لضياعها المحتوم ومقتنعة بالقدر وبالمكتــوب. إنها- الأجساد - انعكاس حي وتجسيد ملوَّن لموت داخلي بطيء يصعب فصله عن تجربة الاعتقال والاحتجاز والمطاردة التي عمَّقت لديه حساسية الوجود وسؤال الحياة.. أجساد، أم أطياف إنسية وكائنات شبحية مطبوعة باستيهامات داخلية.. متشظية وممزقة وأصوات مبحوحة تعلن عن ميلاد ألوان وتشكيلات طيفية محيِّرة تتفجَّر في اللاوعي.. هي بحثه الإستتيقي الدائم.. هي الامتلاء الذي ينتصر به على كل ضيق أو استبداد، أو أي اعتداء قد يصيب الجسد، وكأنه يردّد مع نيتشه: اأيها المستهزئون بالجسد، إن ذاتكم نفسها تريد أن تموت، وقد تحولت عن الحياة لأنها عجزت عن القيام بما تطمح إليه وما أقصى رغباتها (.. .) ولقد مضى زمن تحقيق هذه الرغبة، لذلك تطمح ذواتكم إلى الزوال(.. .)، إن هذا العجز وقد ولد فيكم النقمة على الحياة والأرض وها هي ذي تتجلى في شهوة لحظاتكم المنحرفة دون أن تعلمواب.. أجساد متمرّدة ومحتجة ترفض الاستلاب وتنبذ كل سلطة زائفة.. أجساد موحية وصادمة تسبح ضد أفق صعب سرعان ما يزول بسبب إرادة الفنان وإصراره القوي على التحدي متخذا من الفن أداة للمقاومة والاستمرارية. اأن تعيش، يعني أن تتعلم هذا الفن الحيوي الذي يمنعك من استنزاف قدرتك على مواصلة الحياة وبالطرق التي تكفل لك البقاء على حيويتها متواصلة وزمنك الصعب الذي يهرب باستمرار. أن تتابع حلمك، أو أن تتماهى أنت والحلم كما هي الحياة في نهاية مشوارهاب (الكلام للفنان علي النجار). علي النجار رسام الأجساد الهلامية بامتياز، وملوِّن كبير- Un grand coloriste من طينة نادرة يرتبط فنه بحياته ولوحاته مطبوعة بسؤال الذات والهوية والوجود..
ناقد تشكيلي من المغرب
|