محمد مكية وتطور الحداثة في العراق

المقاله تحت باب  محور النقد
في 
16/11/2008 06:00 AM
GMT



إذا أقدمنا على تقييم محمد مكية، بكونه معماراً عراقياً طليعياً أسس طرازاً معيناً في العمارة الحديثة، وسعى عن طريق هذا الطراز في إبتكار شكل معماري يعبر عن هوية جديدة الى مجتمع معاصر عراقي، إضافة الى كونه أستاذاً معمارياً متميزاً ومؤسس (الكوفة كاليري)، الذي أصبح المركز الثقافي العراقي الوحيد خارج العراق، خلال حقبة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، واكتفينا بهذا، نكون قد أهملنا دور محمد مكية في تكوين العراق المعاصر. إذ لا تتوضح أهمية دوره، إلا إذا بينا موقع هذا الدور في تطور الحداثة في العراق.
قبل أن أقدم على وصف دور مكية في تأسيس العراق الحديث، وهو التأسيس الذي حصل بين عام 1924 لغاية 1945، لابد لي من أن أبين أن العراق كان يفتقر الى المؤسسات الثقافية والتعليمية، قبل عام 1920.

إذ يفتقر، بما في ذلك: مدارس الإبتدائي والعالي، وإلى رجال القضاء، والأطباء، والمهندسين، والمعماريين، والسياسيين، والصحفيين، وغيرهم. كان مجتمعا لا يمتلك أية تقاليد أو خبرة في غالب الفنون: كالموسيقى، والرسم، والنحت، والغناء، والرقص، والسيراميك، وغيرها. كما كان يفتقر الى تربية الألعاب الرياضية.
لقد إمتد هذا العجز الحضاري، أكثر من ألف عام، ففي أوج التقدم الحضاري، لم تتمكن الحضارة الإسلامية من تأسيس قاعدة لغالب الفنون.
أما في مجال العمارة فقد إبتكر طراز واحد يمثل الحضارة الإسلامية، غير أنه جمد بعد القرن الثامن، أي جمد لمدة نحو اثني عشر قرناً، غير أن بعد عام 1920 ظهر في العراق قادة، من تلك البيئة المعرفية المتخلفة والفقيرة الذين أقدموا وأسسوا قاعدة الحداثة، في مختلف المجالات.
ربما لم يكن هناك أكثر من مئة شخص في مختلف المجالات المعرفية والفنية، الذين أقدموا وأسسوا هذه النقلة، وذلك في إدارة الدولة، والقضاء، والصناعة، والطب، والعمارة، ومختلف الفنون وغيرها من المجالات، وكان مكية أحد هؤلاء القادة، ولكي نفهم أهمية هذه القيادة في مجال العمارة، علينا أن نرجع تطور العمارة منذ العشرينيات من القرن الماضي، ودور القادة المهندسين والمعماريين الذين أسسوا قاعدة العمارة الحديثة في العراق، فأبين الملاحظات الآتية:
أولاً: نجد إن الحضارة الإسلامية، بنت طرازها وتكنولوجيتها في البناء على عمارة وادي الرافدين، بتداخل مع العمارة البيزنطية، إضافة الى أن الحضارة الإسلامية ابتكرت زخرفة هندسية تميزت بها، ولكن بعد ذلك التأسيس جمد تطور العمارة لمدة اثني عشر قرنا، كما كانت عمارة لم يرافقها تطور في الفنون الملازمة الأخرى، كالنحت والرسم والموسيقى.
ثانيا: نجد إن الحضارة الأوروبية قد تمكنت من تجاوز مقام الحرفي وابتكار مقام المعمار منذ القرن الخامس عشر.
فكان على المعمار والمهندس العراقي في حقبة العشرينيات أن يقدم على تحقيق ثلاث حركات:
1ـ تفهم الحداثة التي كانت تتطور في أوروبا، ونقل تكنولوجيتها ومفاهيم طرزها الى العراق.
2ـ ابتكار مقام المعمار في المجتمع العراقي بدلا من الحرفي.
3ـ ابتكار معالم تعبر عن هوية العراق المعاصر، وفي الوقت نفسه مواكبة تطور الحداثة العالمي.
لم يمتلك العراق في العشرينيات تكنولوجيا وصناعة تتمكن من تفهم متطلبات الحداثة، بل كانت صناعة البناء كغيرها متخلفة جدا. وهنا تظهر أهمية دور المعمار القيادي.
لذا سأصف الدور القيادي الذي حقق النقلة الى الحداثة، بالرغم من كل المعوقات التي أشرت إليها:
1ـ مدحت علي مظلوم، كان أول معمار، عرض نفسه كمعمار وليس كحرفي، فأحدث نقلة في مفهوم ممارسة العمارة: نقلة من قيادة الأسطة، الى قيادة المعمار.
2ـ جعفر علاوي، وهو أول معمار برهن للناس إن المعمار الحديث متقدم عمليا وتكنولوجيا عن الحرفي، من خلال ممارسة معرفة تكنولوجية حديثة عملية.
3ـ علي رأفت، مهندس مدني: أقدم واستورد المواد الحديثة التي هيأت للمعمار الحديث توفرها، وبين كيفية استعمالها، والتي كانت مواد جديدة على السوق العراقي.
4ـ نيازي فتو، مهندس مدني: كان أول مهندس عراقي يقوم بتأسيس مكتب هندسي منظم مع معطيات تكنولوجية، بما في ذلك تنظيم وثائق التعهد بصيغة حديثة.
5ـ عبد إحسان كامل، حدد من خلال سلوكياته نموذجا في ما يتعين أن تكون أخلاقيات أصول ممارسة المهنة، والتي يتعين أن يتميز بها المعمار.
6ـ وأخيراً جاء محمد مكية ليقوم بدورين، الدور الأول: كأستاذ جامعي الذي درّس العمارة ليس بكونها موضوع تدريس فقط، حيث تؤلف مواد تدريس مستوردة من أوروبا، وإنما برّز في تدريسه أهمية هوية وعاطفة المجتمع.
ونبه الطالب الى ان دراسة العمارة هي ليست فقط حفظ المعلومات وتقديم امتحان، وإنما تفعيل عاطفة مهذبة متعلمة مع عاطفة المجتمع، كما عليه أن يبتكر معالم تعبر عن هذه العاطفة، وتعبر معالم هذه العمارة، في الوقت نفسه، عن عراق معاصر ضمن تطور عمارة عالمية معاصرة.
ثانيا: بعد ممارسة دامت عشر سنوات او اكثر، تقدم في بداية الستينيات وإبتكر طرازاً جديداً، هدفه تهيئة طراز حديث، يعبر عن هوية عراق معاصر. لقد بنى مكية صياغة طرازه على مقومين:
1ـ هيكل معماري حدث، وبهذا يكون واكب الحداثة العالمية.
2ـ أدخل ضمن هذا الهيكل معالم إنتقاها من التراث للعمارة الإسلامية، حقق هذا بصيغة منسجمة، لأنه يتمتع بمعرفة واسعة وعميقة في تأريخ العمارة العالمية والإسلامية.
لابد من أن أشير هنا الى إن مدحت علي مظلوم، وعبد الله إحسان كامل، ومحمد مكية، كانوا مطلعين على مختلف التطورات الفنية والمعرفية في أوروبا، بما في ذلك الرسم والنحت والموسيقى، وتأريخ العمارة الأوروبية، وغيرها. هذا مما جعلهم طليعيين على الصعيد العالمي. وهم قلة في العراق وفي العالم العربي. لقد ظهر الفكر الطليعي في العراق في المجالات التي أشرت إليها، وظهر قادته كمحصلة لتفاعل عاملين، أولا الإدارة الإنكليزية، وثانيا، ظهور قادة واعين بمتطلبات الحداثة، مخلصين في عملهم، وحريصين على بناء عراق جديد. وأخيراً، أود أن أقول: لقد ظهر الفكر الطليعي في العراق الحديث، من غير شبكة معرفية وثقافية تدعم هذا التطور، مما جعلها حركة هشة، فتمكنت الشبكة المتخلفة أن تقضي على الدور القيادي لهذه الحركة. ولكن، في رأيّ، ستبقى هذه الحركة الطليعية في ذاكرة المجتمع. وأنا أعتقد بأنه سيكون لها أثر كبير في تطور العراق في المستقبل، ومحمد مكية من بين اهم قادتها.