رحيل نحات لعبة الكراسي

المقاله تحت باب  محور النقد
في 
15/12/2008 06:00 AM
GMT



 
 

لم يكن لذلك الطفل البغدادي ألعاب علي غرار ما يملك أقرانه.. ومثل بقية أطفال العراق كان اللعب بالطين أرخص الألعاب وأقساها بعد أن يكتشف آباؤنا ما أقدمنا عليه.

لكن منقذ سعيد واصل لعبته ولم يدرك ما ستجره عليه من تبعات.. علي تمائيله الصغيرة أن تبحث لها عن مكان وسط زحمة الأنصاب والأصنام الهائلة التي تنتشر حوله سواء علي شكل تماثيل من المعدن والحجر أو علي شكل بشر جامدين لكنهم يتحركون مدججين بالأمية والأسلحة.

غادر، بعد ذاك الحصار، حصاره الشخصي، وطنه العراق ليجد نفسه عالقا علي الحدود السورية - العراقية لأنه دون سن الرشد، إذ كان له سبعة عشر عاما من العمر.

تلكم كانت أكبر مغامرة وجودية وأخطر حركة قام فيها في حياته، كما أخبرني أخيرا، عندما التقيته في دمشق قبل حوالي الشهرين.

صدمتني شيخوخته المبكرة ونحافته وبطء إيقاعه وهو الذي تركته قبل خمسة عشر عاما، في دمشق أيضا، فتي معافي يحاكي ديناميكية منحوتاته الخفيفة، وهي تلعب لعبة الكراسي المتعلقة، وهي عمل من بين أجمل أعماله النحتية.

كان يقول: بغداد هي أبي ودمشق أمي.

عاني هذا الفنان كثيرا في حياته بعيدا عن وطنه لكنه استبدل مرارة الغربة وسكونها وجوعها (كان جائعا بالمعني التام للكلمة) بالبحث عن تعابير نحتية جديدة، يجعل منها أوطانا صغيرة له، تفيض بالحركة والمعافاة.

كان يقيم في دمشق أكثر من إقامته في أمستردام العاصمة الهولندية، بل أطول من إقامته في عاصمة مسقط رأسه: بغداد.

والنحات منقذ سعيد من مواليد بغداد عام 1959 وخريج كلية الفنون الجميلة في دمشق عام 1983، درس الفن أيضا في عدد من المدارس الأوروبية وحصل علي الدكتوراه من جامعة أمستردام الهولندية عام 1995، وله مقتنيات كثيرة في دول العالم ومتاحفها وشارك في العديد من المعارض الفنية في بلدان كثيرة، ومن أشهر منحوتاته "الإنسان والكرسي" و"لعبة الكراسي".
يقول في مقابلة أجريت معه: "منذ أن كنت صغيرا لم أشعر أني قادر علي العيش ضمن محيط واحد فكنت دائما أفكر بالتحليق.. بأن أخرج، حتي عندما خرجت من العراق كنت صغيرا عمري سبعة عشر عاما ونصف فلم يسمحوا لي علي الحدود أن أخرج بدون موافقة الأهل. شعرت بأني مكسور لأني لم أستطع الخروج، وجلست في مقهي شاردا طوال الوقت أفكر كيف أخرج من هذا البلد، كان ذلك عام 1978 .

في الثالثة والعشرين تركت الجامعة وذهبت متطوعا إلي حصار بيروت. وبعد تخرجي بدأت أدرّس في جامعات اليمن ثم سافرت إلي جيبوتي والصومال وأثيوبيا وبعدها عدت إلي سوريا كنت أؤمن بأن طاقاتنا يجب أن تبقي في بلداننا العربية".

كان يؤمن بأن علي الفنان أن يعيش عند حافة الخطر، لا بالمعني السياسي الذي قد يهدد حياته فقط، بل بالمعني الإبداعي، وكانت منحوتاته تفكر، فعلاً، بطريقة خطيرة.

ويقول: "أحد النقاد الأمريكيين قال لي: "الشيء الجميل الذي رأيته عندك هو أنك أكملت حيث انتهي جاكوميتي".

متي، يا إلهي، نكتب عن فنانينا وهم يتألقون في وطنهم وليس عندما يتكسرون كالمنحوتات الصغيرة في المنافي والمغتربات؟
متي يا إلهي؟