الرسم العراقي الحديث :يحيي الشيخ نموذجا

المقاله تحت باب  محور النقد
في 
13/01/2009 06:00 AM
GMT



 
من الأشلاء تنشأ الأشياء بأسلوب يتخذ من تبديد الصورة نظرية الأهواء المتفرقة لأحوال الذات، متشظية بين كسر وجبر ولكن بصبغة حسنة قد نعجب لذكاء تراكيبها و طلاوتها الندية.
ترى بأي مقدار من الإحتمال و التوجس يتم خلط القرمزي مع البنفسج للتوصل إلى هذا  اللحن الشجي على صعيد الإتزان البصري؟

فعندما يتوغل الرسام "يحيي الشيخ" بين أشجار غابات النرويج و أصقاع روسيا، نرى فرشاته تشق دروبا محفوفة بثلوج الشمال من خلال طبقة قطنية ملساء الملمس كالوبر، مطواعة لبلوغ المرامي أثناء الشغل مع التمتع بنعومتها مادة ملونة عملت فيها آلة الذهن ما يقتضيه الأسلوب كشرط للطرافة و البناء الفني الصائب.
 
وإن هو الا درس تطبيقي حديث يعتمد أصابع الشمع و الصمغ و السوائل الدهنية الرفيعة لما فيها من لين تحتاجه أحاسيس اللون. و بذلك المراس التقني تنبلج الأشكال على هواها تحت مصفاة المراقبة، حتى يخيل إليك أنها تتعرى على استحياء ومن ثم تتحول الى كائنات تذكرنا بملامح البطريق و أطياف الفقمـــــــــــة و الأرنب الوديعة.

في معلقات حائطية أخرى نحس بأن طاقة سحرية مبثوثة في منافس القطعة و أليافها، تجعلنا نرتفع و كأن منطادا خفيفا يعلو بنا عن الحضيض و بالتالي يحررنا الرسام من أسر طبائعنا و مكر غرائزنا لبرهة من التأمل، و هذا في حد ذاته يعد فائدة  مكتسبة.
 
ومن منطلق تأويلي آخر قد يباغتك في اللوحة مشهد حيوان غزير الوبر مقرور الجسد يلعق ذراعه الصغيرة في مناخ يفوح من ألوانه السوسن الأزرق و هي من تأثيرات البلاد السكندينافية على هذا الرسام الرحالة  و قد اختار لألواحه عنوان: نوافذ زرقاء .  
  
والمتعارف عن عادات هذه البلدان الجليدية مثل أوسلو و كراكوف و ترونهايم، أن العائلة إذا فقدت حيوانها الأليف جروا كان أم هرة، تستبدل مكانه على البساط و الأريكة دمية بسروال قصير للتعبير عن الطفولة التقية والكهولة الشقية في طور ثان ، مع جواد في كامل زينته الخشب يركبه الصغارللتناسي و التخفيف من وطأة الفقد.

وهي من الألوان الفنية التي يقتنيها الأوروبي حسب معايير العلامة التجارية للمنتجات الحديثة .
حتى تذكارات الأسى في الثقافة الغربية لم تسلم من الزج بها داخل اقتصاد السوق.
 
اذ ليست مهمة التصوير في هذا السياق أن يفسر و يعالج، بل أن يحيا بملء كيانه المستقل على اعتباره مادة كيميائية  متجذرة في النبات و الفلك يحكم أمزجتها أثر الضياء المسلط و بذلك يقف الرسم و روح الشعر على حد سواء يكبر أن يشرحه النقد و يحلله حتى " إذا فتشته لم تجد فائدة فى المعنى".  
 
معلوم أن الصوف مادة متغيرة الإحساس نظرا لخفة روحه و نقائه الطبيعي، إذا مشطه أو جدله المبدع الحاذق في تصاميم مهندمة، يريك مع كل رمش شكلا عديم المثيل مختلفا، وبذلك التبدل تكبر الإحتمالات في العين ، و يهجر " يحي" توجيهات المناهج الأكاديمية لينتفع بتعابير الشعب كالتشطيبات على حائط متقشر و كتابة الأدعية التي تفرج بين الخطوط المستقيمة و تشقها لفتح مسارب ضوئية دافقة و بالتالي يتم تحريك الثابت الأصم.
 
و العجب أن الرسام أتى بجرأة أقصى ما عنده من الخامات و اللقى و القطع المهملة مثل لحاء نخلة أو لبائد رقيقة هي في الأصل أغلفة آلات نجدها داخل صناديق الكرتون مع خيوط نحيلة يعقدها أشكالا تعبيرية متنوعة تجسد الرقص و السير و التحدب، تذكر الرائي بمنحوتات ، كان اقتبسها من روائع الفن الفينيقي ومن الجداريات السومرية على غرار البريطاني هنري مور                            .
هي ذي تجاربه و بحوثه في مباهج لوح أدركه الطمس، ورقاع عمل فيها الإمحاء لغرض فني يبث إشراقاته من خلال تشابيك السدو و مقطوعات النسيج تكسو البيوت بهاء غير مستقيم الحواشي بل هي مقتضبة الأطراف تهدلت على وجهها الصبوح بعض الخيوط الملونة كيفما اتفق، ويالها من فوضى سحرية تحنو و تحن إلى البيوت الأولى، لينتج في الأخير فنا غير مسبوق و ليس بمستعمل.
II

في عملية الرسم الموسومة بالهواجس الناهشة للذات  و بالخوف من الإخفاق، يقوم  قليل التلوين بكثير المعاني، كما يفي مربع شطرنجي صغير البناء  بالتعبير عن أشياء بالغة الدلالة وفق العلامة و ايحاءاتهـا و رب أثر هو في غير وقته بدعة حسب اعتقاد القاصدين قاعة العرض.
و الأرجح أن الزمان في واقع أمره لا يستحق أن يكون له عبقري يزينه ، و لا يقتضي أن تنبغ فيه مبدعة لأن من شيمه المعكوسة تلطيخ البراءة و مسخ الجميل، ومن هنا يدرس الرسام هذي المفارقة على أساس ذهني ينحي الذوق الجماهيري جانبا ، فالصورة عنده تأويل استشرافي و ليست واقعا مرئيا.

ما يشغله بحق هو الوقوف على طبيعة التناسق وفق نغمات لونية تخرج خبايا المادة الزاخرة بابتكارات جديدة ومن ناحية أخرى يقمع سلطان التشخيص في تقليده المتقمص بدلة النمطية من قرون خلت.

لذلك نراه يعمل مثل كيميائي موازنا بين أخلاط سود لغاية الإعتدال، و أضداد حمر لغرض الإنسجام و إن كانت الخامة  قطعة مدعوكة يستخرج أشكالها المنطوية على شتى الإمكانات.
تارة ينقص الرطوبة من برودتها ، و تارات أخرى يزيد فيها شيئا من اليبوسة الحارة للتأليف بين عتمة الإنطفاء و وهج التوقد تحت رقابة عقلية تهدم مفهوم الطهارة الضائع جوهرها عبر مستخدمات و أشياء مبعثرة لا يستأنس بها غير اللاشيء. إذ للعين حقها في ملامسة فرو الأصباغ ، و للمشاعر قسطها من السهو في الكون الأوسع.
 
يتناغم "يحيي الشيخ" مع الطابع المحلي للعراق، و ينفصل عنه في ذات الوقت لأن الهوية الحضارية برأيه تطلع لما في تجارب الأمم من منافع، فاستلهام جماليات الحرف العربي كصورة لا كمعنى دفع بحركية رسومـــــــــه و معلقاته إلى مجال ينخرط في سياق حداثي لا يمكن له أن يتجدد في التقليدي فقط علما و أن أصل الكتابة في أي لغة هو الخط المستقيم كذلك في الهندسة، ولو  تمعنت  في الألف لرأيته متقدما على سائر الحروف و أشكالها بالإستقامة.
 
وهو نفس المسار الذي انتهجه تيار البعد الواحد اعتقادا منه بأن الزاوية لا تصوغ شكلا هندسيا مغلقا هي في الأصل من تقاطع خطين و ربما توحد فيهما الظاهر بالباطن حسب تدرج الألوان، كما أن المثلث لا يتحقق إلا بتقاطع ثلاثة خطوط أي بسطح ذي بعدين يسمحان للرسام أن يضع أكثر من لون في مكون تشكيلي واحد هو بدوره يأخذ بعدا بصريا متنوعا يزيد في سعة إدراكنا كما يصحح مفهومنا للزمن  حين نجعل له أطرافا غير موجودة في الواقع العلمي ذلك أن الليل و النهار هما شيء واحد على حد تعبير هرقليطس...
 
وجريا على هذا النسق فالطبيعة لدى إخوان التجريد لم تكن معبدا للتأمل، و لا تنتظر وحيا أو إلهاما إلهيا من المبدعين هي مصنع رؤى تقدس انتظام العمل الدؤوب لجلب السعادة إلى كل طالب معرفة مع السعي في مصالح الأقوام على اختلاف أعراقهم.

إذن لا بد من اجلاء الغموض الزخرفي الكثيف عن مكونات الطبيعة و أحجامها الثلاث ، فالشكل الإسطواني يدل على استقامة راسخة، و المكعب عنوان تلاقي الأركان في القرب و البعد، و الكروي رمز الكمال المحكوم على جماله بالنقصان و التبدل ، وهي من التعريفات الحديثة، بالتأكيد تنير من يروم التفاني في صناعة الفن .
 
وكما يلقي الطاووس ريشه كل عام ، كذلك تفعل الكرمة بأوراقها لانبعاث مزهر جديد.

ولكن هل بقيت الطبيعة غناء، ثرية على الفطرة ؟ ألم تلوث المحروقات صمتها ؟ و أين هي الأنهار غير المسمومة ؟ والتلال غير الملغومة ؟
وفي هذا الشأن لعلنا نسينا " مديحة عمر " الشغوفة بالخطوط المائلة للتعبير عن المجاذيف الدافعة على الإكتشاف و التقصي ، فيما يتركب الكون خفية على هيئة نون .
 
و " شاكر حسن آل سعيد " نراه يحذف الشذرات بعصبية و يخطط بلسان قلم نحيل عجلة دراجة لا ندري إلى أين تمشي. و "محمد مهر الدين" قد يفاجئك بطابع بريدي مدموغ على قصاصة جريدة سوداء من عمل الهواجس يزينها وجه رسالة تمزق إلى نصفين بأسلوب مبتكر لا تخفى معاناته النفسية (ستستفيد العيادة التحليلية من هذه الخربشات و الشخابط في وقت لاحق).
 
كذلك  " ضياء العزاوي"  الذي جعل من الورق المحبر كاميرا وحشية تنقل ببراعة حياة البادية منذ فجرها الجاهلي عبر تشخيصه للمعلقات السبع على منوال " الواسطي" مجسم المقامات.
و ملخص القول أن الضدية في أي تطبيق فني، هي طرح تتبين به الموجودات و تحتجب في آن. لذلك قد يغدو المشهد بأكمله نقطة تتلجلج على السطح بوصفها أصل الخط و منتهاه الغرافيكي.
أعود إلى ثنائية السر و العلن في آثار "يحيي" الفنية إذ يقابلها القصدي باللاإرادي داخل دولاب وجودي لا تقدر نواعيره على الدوام إلا بنظام السالب و الموجب. و هنا لا بد من احترام مبدإ الإختلاف كقيمة أخلاقية يمكن للفكر المتشدد أن ينتفع بمحاسنه حتى و إن كان الرسم طشاش أصباغ منتثرة في العدم بإمضاء الشاعر – الرسام – هنري ميشو، و يمكن تفسير القطعة بالنجوم المتوامضة في ليل فردوسي (مصطنع فنيا).
 
هكذا حدثني وقد أنتج رقاعا جمة و رقوقا غضة قفراء من جانبي التكوين و التزيين للتهوئة صيرها شابة النشأة حتى لم يبق رواق أو متحف إلا و تمنى لو أنه العارض أو المالك لهذه الإبداعات هي فقيرة الظاهر هكذا تبدو، غير أنها سليمة الباطن من آفة النقل السقيم تقنيا و على هذا المنوال فمنظر قفل على خربة أفضل من بهرج تشخيص مستنسخ ألف مرة و بالتالي هو هشيم يابس.
 
و لهذا السبب عمدت معاهد الفنون بالعالم إلى تنقيص ساعات التصوير من ثماني في الأسبوع إلى ساعتين و لكن هيهات فقد ضعف مستوى الخلق الفني و قل التوجه إلى مادة النحت بوصفه فنا شديد الصلابـــــــة و طريقا للنجاح لا يطيق عناده غير المتمكن من دقائق الرسم و البارع في تشخيص الحيوان و الأعضاء البشرية ، وهنا نقف في مفترق طريق متشعب الإتجاهات، ناهيك وأن حيرة اللون تكمن في كيفية إثبات الحياة و تصويرها من الداخل ، و من ثمة يقع نفيها المضادد  لتمظهراتها بحكم تعاقب النسيان و التذكر.
حسين القهواجي - تونس