لقد نفذت عينا جواد الى الوان بلده الرائعه رغم المسحة الترابية التي تطغى عليها. ومن التاريخ العراقي القديم وعمال بغداد الجدد كان جواد قبل ذاك قد انتج رائعته الحجرية (البناء) وكانت باسلوب النحت الاشوري البارز ولكن مسحتها عربية.
ومن تأثره اللاحق بالنحات هنرى مور انتج تمثال الام الخشبي واستمر هذا التأثر ولكنه كان قد هضمه وانتهى منه قبل ان يعمل على نصب الثورة، الذي كان اخر اعماله.
ساهم جواد بعد عودته الى بغداد في تأسيس جماعة الرواد ثم الف «جماعة بغداد للفن الحديث» وكان غرضه من تشكيل هذه الجماعة خلق اشكال تضفي على الفن العراقي طابعاً خاصا وشخصية مميزة رغم ارتباطها فكراً واسلوباً بالتطور الفني العالمي. وهكذا بدأ جواد في الاسلوب الجديد متخذاً شكل الهلال اساساً لمواضيعه ومضيفاً اليه موضوعي الثور والامومة.
وابرز اعماله في هذه الفترة منحوتته التجريدية «السجين السياسي» التي قدمها في مسابقة علامية حول هذا الموضوع وربح بها جائزة. ثم يعود الى الهلال ولكن في مواضيع شعبية واسلوب عربي ويرجع اخيراً الى الواسطي فيدخل الالوان الزاهية المرحة في اشكاله الهلالية كما في صورة «موسيقى في الشارع» ثم تختلط المواضيع الشعبية ونظيرات الرسام عن الفن العربي فيرسم مجموعة من الصور يسميها «البغداديات» وهي مستوحاة من المخطوطات القديمة والخط العربي ومواضيع الف ليلة وليلة وتعتمل في هذه الصور عوامل الحب والسخرية والالم لما يراه في محيطه.
تنقل جواد بين الرسم والنحت عدة مرات حيث ترك الرسم احياناً وعاد اليه واروع صورة التي رسمها بعد تجارب ودراسات وتطورات في الاسلوب هي «القيلولة» اما النحت الذي كان يرغب في التفرغ له فقد ترك في نفسه طموحاً وتحدياً لانجاز عمل كبير ولو هدد هذا العمل حياته طموحاً نبيلاً يتولد عند الفنان بعد ان يصبح اسلوبه طوع بنانه، وتحدياً اخذ يشعر به جواد بعد ان صمم تمثالين كبيرين لمحطة بعقوبة ولكن العون المالي توقف عام 1945 كما صمم عام 1953 لوحة برونزية رائعة لتزين واجهة البنك الزراعي بعنوان «الانسان والارض» ولكنها رفضت. ولنفس هذين العاملين الطموح والتحدي، قبل افنان العرض الذي تقدكت به الدولة عام 1958 مع انه لم يكن عرضاً سخياً من الناحية المادية، ولكنه كان سخياً من حيث الحرية النسبية التي منحت له في اختيارالموضوع والاسلوب الذي يمثل ثورة العراق بالاسلوب الذي يريده وهكذا انجز نصباً لم يرد العراق صنوان له الا في عصوره القديمة، وقد استغرق تصميمه وعمله فترة وجيزة لم تتجاوز السنين فقط.
ويبدأ هذا النصب من الحصان النافر الى المأساوية التي كان يعيشها الفرد العراقي فانفجار الثورة وماسيعقبه من هدوء وطمأنينه وازدهار في الزراعة والصناعة، ولكن القدر لم يرأف بجواد لكي يرى هذا النصب الرائع (الذي يحوي على اربعة عشر مجموعة من البرونز) وهو مثبت في محله في الباب الشرقي بل فاجأته نوبة قلبية اثناء العمل فيه لم تمهله سوى اسبوع واحد توفي بعدها مساء 23 كانون الثاني وعمره (41) فجواد المعجزة حقق اسلوباً عراقياً في فترة عمره القصيرة لم تكن تحقق لولا اصالته في الوعي والثقافة ورابطته العنيفة ببلده ومواكبته لتطوراته والتطورات العالمية، ففنه مطلق ولكنه متأثر بالفن العربي والفن العراقي القديم.
ولقد كان دائب البحث والتعلم، وعندما دخلت بيته المتواضع بعد وفاته مباشرة تمكنت من عرفة سر تطور جواد فهو اضافة الى اصالته الفنية وقابلياته الفطرية كان دائب القراءة في كل اوجه المعرفة التي يحتاجها الفنان من الفنون التشكيلية الى الادب والمسرح والتصميم بالاضافة الى ولعه بالموسيقى.
رأيت هناك مكتبة ضخمة تملأ غرفة من مزينة بمختلف الصور والتخطيطات الفنية ورأيت مسرحاً للعرائس صممه بنفسه والف له موضوعات مسحرية يعرضها على ابتيه، وهناك كانت القيثارة التي تركها يتيمة دون رعاية، كان قد عزف عليها وتاركها لاتمام نصبه ولكنه لم يعد ليضعها في صندوقها الخاص وحتى انه لم يغلق نوتاته الموسيقية، وعلى مرآى النظر تجد صندوقاً مليئاً بالدراسات الفنية التي لو حاول جواد استغلالها من ناحية مادية لأصبح من الاغنياء.
ولكن جواد عاش ومات لفنه وبلده وامته وقدم لها ما بوسعه وقدر طاقته من انتاج تضمن الحياة العصرية مع الاحتفاظ بالذات ولم يعمل لاحدهما على حساب الاخر بل ظل التوازن مستمراً بين الفن الحديث والتقاليد العربية والعراقية، لقد تغلغل في الاشياء وفهم اسرار بنائها فاعاد خلقها بوسائل فنية حديثة، وهكذا نشأ صرح بنيانه لينشر الضوء على ماحوله من ظلمه فيبددها