"العقل المبدع يلعب بالأشياء التي يحبها". يقول ذلك عالم النفس كارل يونغ. وهذه القاعدة لا تنطبق على العراق الذي يلعب بالعقول المبدعة التي تحبه. ولَعبُ العراق بمن يحبه من فنانيه المبدعين لا فكاك منه. ترينا ذلك سيرة الفنان ضياء العزاوي، الذي أقيم له خلال الشهر الماضي معرض احتفائي في أبوظبي بمناسبة بلوغه السبعين.
وعلى قدر المحبة يكون اللعب. فمن النادر أن نجد في الفن العالمي فناناً يسكنه وطنه كما يسكن العراقُ ضياء العزاوي. إنه مصنوع كله من العراق، رغم أنه قضى نصف عمره في المنفى. يدهش لذلك الناقد الفرنسي ألين جوفلوي الذي يبحث في كتاب حوله عن "طاقة العزاوي في إعادة ابتكار أشكال موغلة في القدم يبلغ تاريخها نحو خمسة آلاف عام، واستخدام ألوان متضادة ومتناغمة في آن لخلق أثر نار هائلة في موسيقى الحرب والسلم".
كان الرسام الفرنسي "سيزان" يقول عن معاصره الرسام "مونيه" إنه "عينان فقط، لكن أيّ عينين"! وهكذا هو العزاوي؛ "إنه العراق فقط، ولكن أيّ عراق"! لقد درس العزاوي علم الآثار وعمل في المواقع الأثرية، وساهم في تأسيس متاحف عدة، واستوحت أعماله فنون بلاده منذ فجر التاريخ، وحتى رواد الفن العراقي الحديث، جواد سليم، وفائق حسن، وحافظ الدروبي... الذين تتلمذ عليهم.
وفي فن العزاوي من بلده قدر ما في بلده من فن العزاوي. ولا أعني بذلك فنون العراق التي تعرف عليها العالم الخارجي من خلال أعماله ومعارضه، بل الجانب المجهول من خدمته لفن وفناني بلده والعالم العربي. توثيق ذلك يصلح موضوع أطروحات أكاديمية، وملصقاته لمعارض فنون الرسم والنحت والخزف والخطوط العراقية والعربية أعمال فنية قائمة بذاتها، وإشرافه على تنظيم معارض كثيرة عنها في العواصم العالمية، تجربة بحثية وتنظيمية رفيعة، وضعت أثمن ثمارها في الدوحة، حيث ساهم العزاوي في إنشاء أول متحف للفن العربي الحديث، هو ذلك الذي احتضنته دولة قطر.
وكمعظم الفنانين والمفكرين المبدعين، سعى العزاوي طوال حياته للتحرر من الأطر الفكرية الرسمية، ليس للعراق والعالم العربي فحسب، بل لخصومهما قبل كل شيء. يسهب الناقد جوفلوي في تحليل هذا الجانب من العزاوي الذي يراه فريداً بين الفنانين العالميين. فقد "تخطى العزاوي غريزياً جميع التصنيفات الإمبريالية والكولونيالية، التي ما تزال تعرقل التفكير الغربي، وتسود سياسات البلدان الغربية بشكل مكشوف، وثقافاتها بشكل خفي".
ويتحرك العزاوي بقوة التاريخ الثقافي للعراق الذي يساعده في سعيه اليومي لفهم باقي العالم. يذكر ذلك في حديثه المنشور بعنوان "ذاكرة بغداد" في صحيفة "ذي ناشينال" The National التي تصدر بالإنجليزية في أبوظبي. والعزاوي الذي ساعد على حفظ أكبر مجموعة للفن العراقي في "متحف الفن العربي الحديث" في الدوحة، يعرف أفضل من أي شخص آخر في العالم أن الفنانين العراقيين منفيون أينما كانوا، داخل بلدهم أو خارجه. ويسحق قلوبهم تصريحه لصحيفة "ذي ناشينال" بأنه لن يعود قط إلى بلده. "أريد أن أتذكر وطني كما كان قبل أن يُدّمر بالكامل، وينهار المجتمع".
وإذا كان "الفن الحقيقي يرينا ما سوف نرى"، كما يقول الشاعر الفرنسي بول فاليري، فأعمال العزاوي رأت في احتلال العراق ما كتم أخيراً أنفاس زوجته البلورية الجمال. أم "تاله"، توارت داخل نفسها، وارتحلت كما ترتحل أضواء الشفق القطبي في شمال بلدها السويد. كم لهذا الفراق أن ينتظر قبل أن يصبح ذكرى، ومتى تغادر أضواء الشفق القطبي قلب الفنان العراقي؟
النافذة الوحيدة التي لم يغلقها الحزن في قلب العزاوي هي ابنته "تاله" التي تدرس في جامعة أكسفورد تاريخ الفن والحضارة العالمية، وعهد إليها أمر مقتنياته الثمينة وأرشيفه الذي يغطي معظم أعمال الفن العراقي والعربي الحديث. وقد تحقق "تاله" ما قلته لها عندما كتبت رواية، وهي في الرابعة عشرة من العمر، أن أعظم الروايات التي ستكتبها ستكون حول أبيها.
وهل هناك شخصية روائية أكثر ألواناً وأغنى خطوطاً من فنان أتى من قلب أحياء بغداد القديمة، لينسج، حسب الناقد الفرنسي جوفلوي، "شبكة ناعمة الخروم لتحرير أولئك الذين يتهددهم طوفان جديد. لقد رفض أن يكون اليتيم المخطوب لبلده نفسه. وبيد صلّبها وقوّاها المنفى، أبدع على قماشة الرسم والورق ما لن تكون قطُّ صورة قديمة مألوفة، أو تصبح نسخة (كليشيه) عن عالم قديم أو مُحدث".
وكما يقول الأديب الفرنسي "مارسيل بروست"، فإن "أعمال الفن العظيمة أقل إثارة للخيبة من الحياة، إنها لا تبدأ بإعطائنا أفضل ما عندها". وقد فعلت ذلك معي مرتين أعمال العزاوي. أول مرة كانت مع مجموعة رسومه للمعلقات الشعرية العربية السبع التي عرضها لأول مرة نهاية السبعينيات في "غاليري الرواق" في بغداد. وقد علقت في ذهني سنوات طويلة، لا تفاصيلها الساحرة، بل حضور باقة فتيات بغداديات يوجع جمالهن القلب!
وبعد سنوات من اللقاء الأول برسوم المعلقات، رأيتها بالقلب والعين في مقر "صندوق الإنماء الاقتصادي العربي" في الكويت، والتفت بوجهي أغالب الدموع. أغرقتني تفاصيل خطوطها العربية التي تنحني وتدور، كوشم التمائم حول مقاطع من وجوه وأكف وعيون نسائية مكحلة، ورؤوس خيول، وعرائش نباتية تنثر كلمات المعلقة نجوماً وأقماراً وقبباً ومقرنصات.
يا الله، كم كنا فتياناً أغراراً لا نرى أنفسنا في مرآة المعلقات التي رسمها العزاوي! كيف فاتنا اكتشاف سحر عبثنا مع فتياتنا في رسوم معلقة امرؤ القيس: "أفاطِمُ مهلا بعض هذا التدّلُل، وإن كُنت قد أزمعتِ صَرمي فأجملي. أغَرَّكِ مني أنّ حُبّكِ قاتِلي، وأنك مهما تأمُري القلب يفعلِ"؟
و"الرسم هو الاختبار الحقيقي للفن" كما يقول الفنان الفرنسي "إنغرز"، المشهور بلوحاته الاستشراقية الخلابة. وقد اختبرتْ قلبي مجموعة رسوم العزاوي لمذبحة "صبرا وشاتيلا" في بيروت. غطّت الرسوم عند عرضها كاملة لأول مرة في الكويت عام 1983 جدارية طولها سبعة أمتار وارتفاعها ثلاثة أمتار. وحصلتُ على نسخة من طبعتها المحدودة بتوقيع الفنان، وفيها رسم طير صغير استوحاه العزاوي من حادث رحيل زوجتي المفاجئ، التي توفيت في عمر الزهور، خلال فترة إقامتنا المشتركة مع العزاوي وزوجته في لندن.
وكنت أفكر منذ مدة باستخدام الرسوم لتزيين جدار في منزلي. وعندما فعلت ذلك رأيت لأول مرة ما رآه العزاوي. صعقني الطير، الذي يرفرف ببراءة. هذا هو الفن "إنه لا يعيد إنتاج المرئيات، بل يجعلها بالأحرى مرئية". يقول ذلك الرسام السويسري "بول كلي" الذي يقارنه الناقد الفرنسي بالعزاوي.
يا ضياء العزاوي، اختيارك المنفى الدائم خطأ، خطأ، خطأ. العراق ما يزال ممكناً، وأنت تحرمه جزءاً ثميناً لا يملك أحد غيره حق التصرف فيه، فاترك للعراقيين أمر تقرير متى وكيف يعود العزاوي. وتذكر دائماً ما كانت تقوله جداتنا عن الحكام الطغاة: "هذا البلد مو مالهم، ولا مال الذي خلّفهم".