شموس من فولاذ.. عن منحوتات أحمد البحراني

المقاله تحت باب  محور النقد
في 
18/08/2007 06:00 AM
GMT



 
لم أكن قد التقيت النحات أحمد البحراني (بابل ــ 1965) خلال إقامته في صنعاء في النصف الثاني من عقد التسعينيات بما يكفي للتعرف علي رؤاه وأفكاره وانشغالاته. اقتصرت علاقتنا علي مصادفات لم تنتج حواراً جديرا بفنان مجدد مثله، ومتابع بَصَري مثلي، وخلال اكتفائنا بعطايا المصادفة ونزر المقابلات السريعة كنت أكوّن انطباعاً ظلّ أسير قناعات يشكل بعضها خصوصية النحت كفن مهمش إزاء جماهيرية التصوير النسبية والتي هي بدورها تنحسر لصالح الأدب المنسحب أصلا من برامج ثقافتنا العامة الشائعة وبؤس التلقي والتواصل في عراء المدن العربية من جماليات الفن والفقر البصري السائد في البيت والمكان العربي عامة، وندرة النصب والأعمال الفنية حتي الموروث منها كالخط والتنويعات الكولغرافية الممكنة والمتمددة من جمالياته أساساً.
يشكو نحّات ورسّام مهم في المسيرة الفنية العربية ــ والرؤية النحتية خاصة ــ هو جواد سليم في يومياته لأن أحد أعماله النحتية التي عمل فيها قرابة شهرين لم تثر إلا إعجاب القليلين ولم يفلح في بيعها طوال فترة العرض الذي شمل أعمالا فنية متنوعة. وتعليقا علي ذلك وتفسيراً له ــ ولتهميش النحت برفض أعمال عديدة لجواد وإهمالها كمنحوتات المصرف الزراعي ومحطة قطار بعقوبة وحصان مضمار السباق في المنصور، وشعار مصلحة نقل الركاب ببغداد ــ قلت في مناسبة نقدية سابقة أن ثمة انقطاعا بين الموروث النحتي لوادي الرافدين، والإنسان العراقي الوارث لهذا الكنز من منحوتات بابل واشور وسومر والحضر وسواها من الجداريات والتماثيل واللقي الغنية موضوعاً وأداء.
لا شك أن هذا العمي أوالفقر البصَري علي مستوي التلقي يفترن بسياقات الأنظمة السياسية والظرف الذي يفرض علي العراقي ترتيب أولويات حياته بما يؤخر الفن لصالح مفردات العادي واليومي. ولكن الفنانين وجمهورهم النخبوي والمؤسسات تسهم في تكريس ذلك الانقطاع وتكرّس تلك القطيعة.
وقد تأكد لديّ هذا الافتراض عبر ملاحظتي طريقة عرض المنحوتات داخل الصالات وضمن المعارض حيث تتكفل بها الأرضيات ويمر بها المشاهدون رافعين أبصارهم صوب الأعمال المعلّقة علي الجدران مفترضين أن الوجود البصري لها يتحدد بعلوّها فحسب، رغم أن وعينا بالفن نشأ ونما في مدينة هي بغداد، لها حظ طيب في جماليات البصر عبر شواخصها الفنية الكثيرة قياسا إلي مثيلاتها من مدن الحداثة العربية.
ربما كانت هذه الاستطرادات المطوّلة عن عزلة النحت ترميزاً لاعتذار متأخر عن فقدان الصلة بفنان كالبحراني جمعنا وإياه مكان واحد لم نقتنص فيه فرصة المعرفة والرؤية والمشاهدة والحوار.
في معارضه الصنعانية كان للبحراني هوس واضح بالشخوص، وقد لفت انتباهي بقدرته الإنشائية المتجسدة في بناء موضوعات تعارض التجريد الذي تفترضه الكتلة النحتية المتشكلة من مادة البرونز أو الحديد أو المرمر أو الحجر. فيستنطق الفنان صمت المادة وصممها وصلابتها لتبرز في عراء الفراغ بهيئة أشخاص تدل نحافتهم والسمة التعبيرية للأعمال وعلاقات الشخوص الواقفين مصطفين أو المتقاطعين أو المتقابلين في مشاعر إنسانية ترثي ما أصاب العراق ــ كانت تلك الأيام تشهد حصار ما بعد حرب الخليج الثانية ــ لذا تظهر الأجساد ضامرة ً أو ملتصقةَ البطون هزيلةَ الأطراف لكنها ممتدة القامات والأبصار صوب الأعلي أملاً ورجاءً.
كانت العناوين التي يبرع الفنان في سبكها تقود المشاهد إلي معترك بصري تكون مادة النحت مجرد مناسَبةٍ لاستذكار ثقل الحياة وشدة وقعها ووحشيتها وجمالها أيضاً.
ولم تكن عينا المشاهد قادرة علي إغفال تعبيرات الوجوه وحركات الأيدي الضجرة وتشابك الأجساد رغم أن المألوف والمعروف في جماليات تلقي المنحوتات أنها تشد البصر إلي مهيمنة الكتلة ذاتها، في رؤية شاملة تتصاغر فيها المفردات والتفاصيل بعكس التصوير الزيتي مثلا أو الحفر أو التخطيطات أو المائيات التي تبدأ مفرداتها بالنمو لتشكيل الهيئة العامة للعمل التشكيلي.
لقد كنا نتساءل وقتها عن استيعاب أحمد البحراني وتمثله لتيارات النحت الحديث وإمكان قدرته علي تمثيل ذلك التأثر بعد هضمه. وقد تبادر إلي الذاكرة البصرية فورا أشخاص النحات جياكوميتي الذي عُرف بتجسيد الفراغ وعراء الأشكال ودقة الأشخاص. ولكن المؤثر النحتي العراقي القديم والمستعاد بشكل معاصر في أعمال جواد سليم خاصة أضفت علي منحوتات أحمد البحراني معالجات أسلوبية مبتكرة للمادة النحتية ذات طابع سردي وهبت الكتلة القدرة علي النطق والحكي والانتظام السردي في موضوع متعين يمكن للمشاهد أن يتلمس فيه ــ إضافة إلي الشخوص العالقين في الفراغ والمتطاولين عن أجسادهم ــ عناصر الزمن المؤطِّر للأشكال، والمكان الذي تتحرك فيه، والأفعال التي توحي بها أوضاعهم ضمن البناء الفني للعمل. بل يكاد المشاهد أن يستولد حواراً بين الشخوص والعالم وأنفسهم في ما يمكن أن نعده استكمالا للسردية المميزة لأسلوب البحراني تلك السنوات.
فيما بعد سوف تتكفل المراسلة التي بدأها البحراني علي ردم الفجوة التواصلية التي حصلت أيام وجودنا في صنعاء معا. كان البريد ــ بشكله الورقي التقليدي ثم البريد الالكتروني في السنوات التالية ــ يحمل إليّ مزيداً من الصور والمصغرات المصورة وأدلة المعارض وما تحتويه من أعمال مطبوعة. فأتاح لي ذلك أن أتعرف علي تطورات الفنان الرؤيوية والأسلوبية المتمددة من جرأته في تكسير الكتلة وتدمير المادة الأولي وفكّ أثرها المرجعي المباشر عن جماليات العمل المنتج.
لقد حصل للمادة ما أوجزه الزميل فاروق يوسف بوصفه (التحرر من هيمنة أبعادها الداخلية) ورصد أيضا ذلك الاقتراب التدريجي من التجريد الذي صاحب عزوف البحراني (عن استخراج أشكاله من كتلة المادة الصماء... لأنه يريد أن تكون هذه الأشكال مصدر الكتلة) وكانت مناسبة هذا الوصف والرصد المعرض الذي أقامه الفنان البحراني بعنوان (شموس) عام 2002 وقد خصصه لمادة واحدة وهي الحديد، فصنع بذلك الاختيار تناغماً مقصودا بين مدلولات الشمس وصلابة المادة الفولاذية، مهشما الشكل الدائري للشمس ليخلق منه كِسَراً وشظايا تتفتت علي سطحها عوالم موحشة كأنها تنعي فقر الروح وخواء النفس الإنسانية.
الشمس في هذه الأعمال مشوهة و كأنها تتعرض لصدمة خارجية تحيل شكلها إلي سطح منبعج أو منقسم إلي شطرين يتباعدان في النهاية ويظل بينهما فراغ أو فجوة كأنما ينعي الشاعر من خلالها انطفاء الشمس، وربما وضع لها ما يشبه الأسنان فتبدو في إحدي تمرينات البصر واختباراته واستيهامات التلقي حيوانا ضاريا يستعد لنهش أجساد لا مرئية.
ومن الطريف هنا أنني أمتلك صورة لعمل من أعمال البحراني الصنعانية يحمل عنوانا قريبا من ثيمة الشموس الفولاذية بحمل عنوان (تحت الشمس) يصطف فيه شخصان تعلوهما شمس عارية تظهر دائرتها الصغيرة محاطةً بأذرع تتوزع من محيطها نحيفة متباعدة وتستند كلها علي خط نازل عمودياً خلف الشخصين ويصب حمم الشمس الهزيلة متماهياً في ظهرهما فيتفاديانها بحركة اليدين التي تعبر عن العجز والضيق معا.
هذا الإنتاج الجديد لثيمة الشمس واستنطاق كتلتها وتوسيع دلالتها الرمزية في (شموس) يرينا التطوير الرؤيوي والأسلوبي الذي أجراه الفنان لأعماله وهو حصيلة بحث ونظر وتأمل وتفرغ وإعادة تمثل وتمثيل للمؤثرات. فكان التجريد والتكسير المقصود للمادة وتغييب الدلالة المباشرة بما يفسح مجالا طيبا للتأويل هي أهم منجزات البحراني علي توالي سنوات تجربته الفنية واشتغاله علي معالجة المواد النحتية والكتل ليؤشر إلي غني تجربته الشخصية وتميزه بين نحاتي جيله وقدرته علي صنع مذاق جديد للخبرة البصرية اقترابا بفن النحت من متلقيه ونفاذ مهمته الثقافية والجمالية.
سيهبني لاحقا الموقع الإلكتروني للفنان البحراني وما يضم من أعمال متنوعة المعالجة والمادة فرصة تشخيص ما توقعته فيه منذ تعارفنا السريع الأول: فنان يتعبد في محاريب كتلة صماء سرعان ما يهبها حياة جديدة في إطار أشخاصه وأشكاله ورهافتها وشاعريتها رغم صلابة المادة وعنف الأفكار المعبر عنها واحتدامها الخلاق.