المقاله تحت باب مقالات فنيه في
22/07/2009 06:00 AM GMT
رحل قبل أيام شيخ الفنانين العراقيين الفنان الرائد عيسى حنّا عن عمر ناهز التسعين عاماً، تاركاً خلفه تراثاً بهيّاً من المثابرة على الخلق والإبداع والفن الجميل. ولد الفنان في تلكيف عام 1919، وهاجر الى بغداد مع عائلته وهو في الخامسة من العمر بعد ان خرّب الجراد ما زرعته العائلة.وكانت واسطة النقل بالنسبة لفقراء العراق آنذاك هي الأكلاك، فانحدرت العائلة مع دجلة حتى وصلت بغداد. دخل في البداية روضة الكلدان ومن ثم مدرسة المأمونية الإبتدائية، حيث تعرف وهو في الصف الثاني على صديق العمر الفنان جواد سليم ، وقد بدأت هوايته للرسم بعد أن أخذ يكبّر صور القراءة الرشيدية – ما قبل القراءة الخلدونية - ، لم تكن هواية الرسم تلقى تشجيعاً من العائلة، لكنه ثابر عليها بجد وسرية تامة، خوفاً من تأنيب الأهل له،
وفي الخامس الإبتدائي جاءهم أستاذ الرسم الفنان ناصر عوني فشجعهم على ممارسته وخصص لهم مكاناً للرسم في المدرسة،وفي السادس الإبتدائي درّسهم الفنان الرائد قاسم ناجي ، وكان الفتى عيسى حنّا يساعده في تكملة صورة الملك غازي الكبيرة التي سوف تعرض في ساحة الكشافة في المهرجان السنوي للكشافة. في المتوسطة تمتنت العلاقة مع عائلة جواد فكان يزورهم ويقضي وقتاً ممتعاً في بيت جواد الذي يضم اعمالاً لرواد الرسم العراقي الحديث ، امثال الفنان الكبير عبد القادر رسام ووالد جواد الحاج محمد سليم علي الموصلي وعاصم حافظ و محمد صالح زكي، إضافة للكتب والمجلات الفنية التي كانت متداولة آنذاك. في هذه المرحلة تعرف الفنان عيسى على الفنان زيد محمد صالح زكي وعرفه بجواد كما درّسهم وقتها الفنان عبد الكريم محمود وبعده جاءهم الفنان عطا صبري، وما ساهم في تطوير ملكاتهم وجود مدير مدرسة متنور هو المربي عبد الغني الجرجفجي الذي خصص لهم مرسماً خاصاً بهم وقطع جزءاً من مالية الرياضة لشراء الألوان الزيتية لهم، كان الفنان عطا صبري فخوراً بهم ما حداه الى عرض اعمالهم على صديقه الفنان حافظ الدروبي الذي كان يدرّس في متوسطة الحيدرية وكانت حركة الرسم مقتصرة على مجموعة ضيقة من الفنانين الجادين، على رأسها الفنان الكبيرعبد القادر رسّام ، أكرم شكري ، حافظ الدروبي الذي كان انشط الجميع آنذاك ، عطا صبري وسعاد سليم . تعلم الفنان عيسى طرق الرسم المختلفة ، من الرسم بالزيت والباستيل والألوان المائية وقلم الرصاص وغيرها ، وكانت الصحبة النافعة مع جواد والآخرين قد أتت بثمرتها الناضجة، فبدأ التفكير في إقامة المعارض الجادة وتحول الفنانون الى رسم المواضيع الإجتماعية ، فاتشروا بين الأزقة والشوارع وبيوت الفقراء يرسمون التعب والملامح الحزينة للعراقيين وتوسعت جولاتهم فشملت الأرياف القريبة من بغداد ، لكنهم حتى هذه اللحظة لم يتعرفوا على ملك الرسم العراقي وأستاذ الأساتذة الفنان المبدع فائق حسن، فقد كانوا يسمعون عنه ويرون صوره التي كان يرسمها كإعلانات للأفلام السينمائية التي تقدمها صالات العرض وقتها، حيث لم يكن الفلم مزوداً ببوستر يوضح احداثه للنظارة، إذ كان فائق قد سافرفي بعثة فنية الى باريس قبل تعرف عيسى وجواد عليه . في عام 1936 أقام الفنان حافظ الدروبي أول معرض شخصي لفنان عراقي أو اجنبي في العراق ، أدهش الفنانين وهواة الفن وكانت أعماله محط إعجاب الجميع. وقد رسم صورة شخصية لفتاة إسمها( جستين ) وهي صورة رائعة وتعتبر أول صورة لموديل حي يجلس لرسام عراقي آنذاك، إذا مااستثنينا الفنان عبد القادر رسام بالذات . بعد تخرجه من المتوسطة طلب منه أستاذه القديم عبد الغني الجرجفجي ، بعد أن صار مديراً للمعارف، أن يدرّس الرسم في المتوسطة الشرقية ، بينما يواصل دراسته في الثانوية الجعفرية ، وكان بيت المربي الكبير ساطع الحصري ملاذاً للذين يبحثون عن المعارف المختلفة وكانت كتب طه حسين، المازني، العقاد، توفيق الحكيم ومصطفى عبد الرازق مصادر وعيهم وثقافتهم كما كانت مجلة " L`illustration" الفرنسيةأهم مصدر للتعرف على الرسم الغربي وظهرت هواية الإستماع الى الموسيقى من خلال صديقهم نزار علي جودت الأيوبي وقراءة الأدب من خلال خلدون ساطع الحصري، وهكذا اكتملت دائرة المعارف لديهم وتنوعت مصادر ثقافتهم. بعد عودة فائق حسن وحقي الشبلي من فرنسا ، توثقت علاقة الفنان عيسى حنّا بهما ، فرسم ديكور مسرحية : " في سبيل التاج " التي اخرجها الفنان الكبير حقي الشبلي، كما تعمقت علاقته بفائق الذي اخذ يزوره في بيته الكائن في العيواضية، فتعرف على أعمال هذا الفنان الفذ ورأى مقدرته من خلال نقله للوحة دولاكروا الشهيرة : " جحيم دانتي " ، كان التعرف على فائق بمثابة النافذة التي أخذ عيسى النظر منها لمعنى الفن وبدأت مع هذه الصداقة مرحلة من أجمل مراحل تاريخ الفن العراقي المعاصر والتي انتجت تلك المرحلة الذهبية من عمر الثقافة العراقية الرصينة. تنوعت المهن التي زاولها الفنان عيسى ، فمن موظف في إسالة الماءالتي تعرف فيها على عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي آنذاك الشهيد زكي بسيم، الذي كان رئيساً للشعبة واصفاً إياه بالهمة والنشاط واللطف ومساعدة المسنين والفقراء عندما يتعرضون الى إشكاليات البيروقراطية، ولم يعلم بانتمائه السياسي إلا بعد رؤية صورته في الجريدة مكبلاً بالحديد. بعدها أنتقل الى دائرة الآثار وفي مختبرها بالذات ، حيث إلتقى بالفنان أكرم شكري الذي كان يدير المختبر. مع أكرم شكري بدأ التفكير بتكوين جمعية للفنانين العراقيين، والتي تأسست عام 1941 تحت أسم( جمعية أصدقاء الفن) وكان أكرم هو صاحب الفكرة وكاتب نظامها الداخلي وقد سانده عيسى بينما امتنع بقيةالفنانين عن وضع أسمائهم على الطلب، ما أضطرهم للتحدث مع الفنان والمصور السينمائي كريم مجيد ( عمو كريم )، لغرض الحصول على موافقة وزارة الداخلية، التي تشترط وجود ثلاثة أشخاص في تقديم الطلب، لكن بعد تأسيسها أنضم الجميع إليها باستثناء فائق حسن الذي آثر البقاء في قسم الرسم ، عرينه في معهد الفنون الجميلة ولعدم رغبته في الدخول في مماحكات ومشاكل الفنانين ونقاشاتهم التي لايجيد متابعتها . دخل الجمعية العديد من المعماريين ومحبي الفن من مثقفي بغداد آنذاك ، وقد أقامت معرضها الأول في دار للأزياء وقتها وأحدث المعرض ضجة كبيرة في الأوساط البغدادية، لكنها تعرضت لهزّة أودت بها الى الفناء بعد معرضها الثالث 1946 ، عندما اعترضت الفنانة ناهدة الحيدري في أحد اجتماعات الهيئة الإدارية على قبول الشاعر المبدع بلند الحيدري وزوجته الفنانة دلال المفتي والفنان المسرحي يوسف العاني، كونهم يساريين ويجب إستحصال صحيفة أعمالهم من وزارة الداخلية، ما جعل بقية أعضاء الهيئة الإدارية يعترضون على هذا التصرف ويعتكفون في مراسمهم فتركوا الجمعية تموت بهدوء دون ضجة تذكر. ويبدو أن هذا المرض رافق جمعية الفنانين العراقيين بعد ثورة تموزأيضاً، وتحول موسم الإنتخابات الى منافسات سياسية أكثر منه تنافسا على خدمة الفن والفنانين وبرز هذا بشكل اوضح مع قيام الجبهة بين الشيوعيين والبعثيين بعد مجيئهم للسلطة ثانيةً عام 1968، فصارت الأحزاب السياسية تتلاعب بمصير الفن والفنانين حسب توجهاتها ضاربة عرض الحائط تطوير الحركة الفنية والفنانين العراقيين، ولا أظن أن هذا المرض قد زال حتى في أيامنا هذه، حيث يتنافس البعض على قيادة الجمعية من منطلق سياسي وفئوي متخلف. كانت أعمال عيسى حنّا منذ البداية تتمحور داخل إطار الرسم كرسم ولم يكن يهتم كثيراً بالموضوع الإجتماعي البحت، وظلّت هذه الخاصية مرافقةً له حتى أيامه الأخيرة. فهو مأخوذ باللون والمساحات اللونية مع بحث جاد في تحليل الواقع الجمالي للعالم المنظور، لم تكن النظريات الحديثة قد أغرته بالتحول عن اسلوبه الذي عرف به ولم يلتفت الى مخاضات الفن الحديث في القرن العشرين، فظل اميناً لتلك الروح التي نشأت معه في حب الطبيعة والحياة الجامدة والصور الشخصية, حيث نعثر من خلالها على كم هائل من المحبة والتلذذ بجمال الأشياء والطبيعة والناس. تعرف الفنانون العراقيون على مجموعة من الفنانين الأجانب خلال الحرب العالمية الثانية والذين جاءوا مع الجيش البريطاني الثامن لمواجهة رومل في الصحراء الغربية مروراً ببغداد ومن أبرز هؤلاء الفنان البريطاني كينث وود الذي كان يرسم بطريقة حديثة نسبيا ًتحاول أن تخفف من وطأة الشكل البشري في اللوحة والبولنديون امثال ياريما وجابوفسكي الذي أصبح صديقاً لجواد، وماتشوك الذي كان مقرباً من فائق، هم فنانون كانوا ينتمون الى جماعة الأنبياء الي يقودها الفنان الفرنسي بيير بونار في باريس، وقد تأثرا بهما بعض الوقت كل من جواد وفائق ، لكن البعض يحاول أن يضخم دور هؤلاء في تاريخ الفن العراقي الحديث دون مبرر إذ لم يجر تبني تلك الأساليب بعد رحيلهم عن العراق ، كما التقى عيسى حنّا بأجاثا كريستي في مناسبات عديدة في العراق، خاصة تلك التي كان يقيمها المستشار البريطاني في المتحف العراقي السيد ستن لويد في منزله والذي تربطه بعيسى صلة العمل في المتحف وصداقته لزوجة ستن الفنانةهايدي لويد. ساهم عيسى حنّا عام 1950 في تشكيل جماعة الرواد : S.P) ) التي التفت حول فائق حسن وهي جماعة اتخذت من رسم الطبيعة والأزقة البغدادية والموديل الحي منطلقاً للتعبير عن أحاسيسها، وكان عيسى وفائق الى جانب جواد قد اعتادوا الرسم في الطبيعة منذ بداية العقد الثالث من القرن العشرين، فسارت الجماعة على هدي هذه الفكرة ومنها جاء أسم البدائيين (Primitives ) أو الرواد كونهم الأوائل الذين جابوا القرى والأرياف والمناطق الوعرة في كردستان العراق. في انتقاله من مديرية الآثار الى مديرية الزراعة وبعد ان اتقن تصليح القطع الأثرية وترميم ماتلف من ألوانها إضافة الى رسمها بدقة وعناية، فقد دخل تجربة رسم النباتات والأعشاب والحشرات في هذه المديرية ، فأصبح من اهم رسامي وسائل الايضاح في العراق ، ما دفع المديرية لترشيحه للسفر الى أمريكا لدراسة فن الطبع على الحرير ( سلك سكرين ) ، ووسائل الإضاح السمعية والبصرية التي كانت جديدة على العراقيين وقتها، فمكث هناك حتى اتقنها وعاد الى العراق رغم تمسك الأمريكان به وعرضهم المغري للبقاء معهم بسبب مهارته بهذا الفن، ما يعتبر فرصة ذهبية لكل فنان طموح ، لكنه آثر خدمة بلاده . تأسس المركز السمعي البصري وبمساعدة امريكية مهمة وأصبح أول مركز لهذا النوع من المهام في الشرق الأوسط ، وقد تم جلب مطبعة أوفسيت وقسم للسينما والتصوير الفوتوغرافي وغيرها من مستلزمات المركز الضرورية. وكان الفنان عيسى المشرف الرئيسي على هذا المركز لمدة عشر سنوات متتالية. ساهم الفنان عيسى حنّا في تطوير فن البوستر وقدمه بصيغ حديثة لم تألفها العين العراقية سابقاً وكان بوستر ( العودة الى المدرسة ) الذي نفذه بطريقة الطبع على الحرير باكورة اعماله في هذا الباب، وهومأخوذ من بوستر بريطاني لكنه غير الكتابة الى العربية, ونجح نجاحاً سر مدير شركة باتا التي كلفته به للدعاية لأحذيتها. ما شجعه لإفتتاح مكتب خاص به لطبع الإعلانات. ومن ثم أنتشرت مكاتب الإعلانات في بغداد والمدن المهمة مثل البصرة والموصل والسليمانية وأربيل وغيرها. ينتمي الفنان عيسى حنّا الى مجموعة الرسامين الذين سحرتهم الطبيعة وأهتموا بفن الرسم بأصوله الأولى، اي أنهم لم يلتفتوا الى الإجتهادات العديدة التي رافقت فن الرسم في القرن العشرين، بل ظلوا مخلصين لتقاليده التي بني عليها،وهذا ينطبق على مجموعة مهمة من رسامي العراق المرموقين، يقف في مقدمتهم أبو الرسم الحديث الفنان فائق حسن بالذات . لقد كانت البيئة العراقية هي المعين الذي أغترف منه الرسامون وظل اللون هدفهم الأعلى خلال النصف الأول من القرن العشرين، لكنه رافق عيسى وخالد الجادر وعطا صبري وفرج عبو وحافظ الدروبي الى آخر محطاتهم الفنية. لم يكونوا مغامرين بالمعنى التجريبي والعفوي، ولا هم من أتباع الحداثة الفوضويةالتي أدت في العموم الى تقليد أعمى للتجارب الفنية في الغرب بشكل خاص، لقد تجنبوا طرق الصدفة وما ينتج عنها والتي أخذت تنتشر في المراسم العراقية، كما أنهم ابتعدوا عن مخاطرالمفاهيم التي لا تتماشى مع البيئة المحلية وكان جواد سليم قد غير زاوية النظر منذ الخمسينيات نحو البعد المحلي ذي العمق التاريخي المجيد. ان الفنان عيسى هو وريث تقاليد الرسم عند البناة الأوائل ، أمثال عبد القادر رسام ومجايليه والذين يمتدحهم عيسى كثيراً ولهذا فالحياة الجامدة التي يرسمها عيسى تذكرنا بالحياة الجامدة لعاصم حافظ ومحمد صالح زكي ، مع بعض التحولات والتبسيط الذي رافق مفاهيم الرسم الطبيعي والحياة الجامدة لدى الفنان العراقي بعد الحرب العالمية الثانية. الرسم لدى عيسى وأمثاله متعة خالصة لاتحتاج الى مفاهيم ومواضيع معقدة أوتحذلق على حساب الحرفة والمهنية الرصينة، أنه توق لمعرفة أسرار الطبيعة والأشياء وعلاقات العناصر التي تكون هذا العالم، بقعة خضراء وراء غصن منحن تساوي حركة الخلق التي أفرزت لنا هذا الجمال،تتبع مضن لعلاقات الأشياء ببعضها لمعرفة صيرورة الخلق ببساطة متناهيةلا تحتاج الى نظريات ومفاهيم تربك حركة الفرشاة أو يد الفنان وحواسه المتيقظة للحظة الإبداعية التي تتجمع في قلب وعقل المبدع المحب للحياة . رحل عنّا أبو خلدون بعيداً عن وطنه الذي أعطاه كل ما يملك، منسياً من المؤسسات الثقافية الرسمية التي تحتفل باللطّامة وطفيليي العزاءات الحسينية ومدمني القيمة والهريسة والتمّن ، المنتفخة بطونهم بالمال الحرام، والممبتلين بهم عباد الله. كان عيسى حنّا واحداً من أعمدة الحداثة العراقية والذين مهدوا لنا الطريق نحو العصر الحديث وخلّفوا وراءهم القرون المظلمة الى غير رجعة ، لكن مضاربات العديد من السياسيين العديمي الضمير قد أعادوا لنا ما كنّا نحسب قد تجاوزناه.... لندن في 28 62009
|