المقاله تحت باب مقالات فنيه في
20/07/2008 06:00 AM GMT
يبدو من خلال مختلف النظريات الفلسفية الفنية انه لا يوجد اتفاق ثابت بشأن تعريف المكان من وجهة نظر تاريخ الفن او بالاحرى من خلال فلسفة تاريخ الفن. والصعوبة هي ليست في عدم اتفاق العلماء والفلاسفة فيما بينهم على المصطلح هذا وحدوده النظرية والعملية وانما في عدم وجود شمولية علمية كافية
لمتابعة الاعمال الفنية الاولية وبالتالي محاولة تقويمها ومن ثم تصنيفها. وعلى الرغم من هذا التشاكل الثنائي في اشكالية حدود المكان فان اي مقترب فلسفي لاسيما على مستوى اللوحة سيواجه تأويلا حادا في شرح مكونات الرؤيا وذلك لأن الاساس الذي يقودنا الى التعرف الى المكان هو الاحساس به الا ان هذا الاحساس هو ليس الحدس وان هو احساس تسجيلي وذلك لان ابعادا معينة تسيطر على اعماق اللوحة فتكسبها ارضية معينة تحدد علاقتها بأحداث اللوحة (الصورة) من خلال ارتباطها المادي اولا. والمتأمل لمعرض الفنان غالب المنصوري (العالم فراغ وفيه نقطة) يستشف ان التجربة الجمالية في اعماله هي التي تحدد المكان وهنا يوجد نوعان للتجربة الجمالية المكانية. الاول ان للانسان داخل المكان جزءا من الابعاد ذاتها او بالاحرى انه يقف عليها وعندها. فهو كذلك يعاني احساسا داخليا ومركزيا.
فلوحته (مكابدات عبد الحق ابن سبعين) وهي وجده الصوفي قطعا تعبير واضح عن ذلك التوظيف المكاني والزماني الذي تحقق من دون المنظور المباشر او لأقل المنظور المشروط او ما قبل المنظور اي ان هذا الفنان القدير يرسم على وفق اسلوب جديد ومبتكر استمده من خلال تأمله الصارم والشديد لإيقاع الحياة والتجربة الفورية الطويلة برمتها اي انه برغم هدوئه المعبر وصمته الملوع، على حد التعبير الناقد الكبير نوري الراوي يريد ان يخرق العادة الجارية عند فناني زمانه ذلك انه يريد ان يرسم بواسطة (اللارسم) فالعبرة لديه ليست التقنية التي اكل الدهر عليها وشرب وانما ابتكار صيغ معاصرة تستطيع حمل همومه وارهاصاته كفنان احترف الصمت والتأمل في كل مناحي الحياة لذا كانت اعماله الاخيرة منفذة بطريقة اللصق (الكولاج) ولكن ايما لصق وايما تعبير حملته هذه الكتل اللونية المنتزعة من روحه ودمه فالعلاقة الهندسية في اعماله تتواشج عضويا مع التكوين الكتلوي لبقية الاجزاء فقد اسهم اللون الذي اختاره الفنان المنصوري في تجسيد مقارباته الفلسفية مع المأثور الاسلامي الذي اراد الفنان من خلاله الولوج للفراغ ومفهوم النقطة والبعد المكاني الروحي.. اما الجانب الثاني الذي استندت اليه التجربة المكانية لدى غالب المنصوري فهو ان المكان الهندسي قد حقق منظورا بمنطلق فلسفي وهذه سمة من سمات هذا الفنان الابداعية فعبر حسيته باللامرئي حقق اتصالا روحيا ومع الفكرة التشكيلية نفسها والتي استخلصها تجريديا من معرفة الاشكال والاشياء. فالعديد من اعماله الاخيرة (مملكة الرماد، مكابدات صوفية، مدائن الاستغاثة) تمثل عملية الاختزال الذي عرف به المنصوري في الاونة الاخيرة خير تمثيل. فالفنان هنا في بحث دائب عن قيم الشكل وصياغات اللون الذي يوحي عبر ايجازه المشحون، بحركة وايقاع العالم المحتدمة. ولعل السبب الذي يحقق استشرافه بوعي جمالي هو قوته وقدرته على الاقتصاد في تكويناته بطريقة بارعة مستفيدا من براعته الواقعية المعروفة في الرسم، فالحسية لديه غالبا ما تكون في حالاتها القصوى وهي مثار التشكيل المبدع، حيث جعل من تجربته المكانية وسيلة للتعمق في رؤاه، واستقصاء كهذا يعين للنمو باتجاهه ما دامت اصوله ضاربة في وعي خاص، وعي يحتم على صاحبه ان يرفض السطحية المجانية وكل الكيانات العينية والتنازل عن الهوية..
اما (الانسان) في هذا المعرض فانه موجود في الداخل دوما، حاضر، ومحاصر ومقاوم ومبشر، فهو يقدم نفسه بندية لذلك كله، وبالذات لمقاومته الذاتية الداخلية التي لم تنسف بعد ولم تنخر، وفي التكنيك يرقى الفنان المبدع غالب المنصوري الى اصطفاء اسلوب عامر بالخيال والاضافة والحيوية، فهو لا يقدم تجريدا معزولا عن الفكر وعن الموقف، انه يقدم اعمالا تجديدية دائما، متصلة بابحاثه ومعبرة عنها على وفق اضافة دائمية، اضافة لا يرقى اليها الحس الاكاديمي لقد بحث المنصوري ولاسيما في لوحته (مكابدات صوفية) و(يد العارف) وعنوان اللوحة الاخيرة مستمد من عنوان لأحد كتب (عبد الحق ابن سبعين) صاحب فلسفة (الوحدة المطلقة للوجود) والذي لا ينفك المنصوري يتحدث عنها بحماسة كبيرة وكانه من مريديه الاصلاء. اعود لأقول ان هذا العمل وغيره هو بحث داخل الانسان، عن جذوته، فعلى الرغم من غربته وعذاباته فهو يتأمل عوالمه،
وهي في تقديري اشارة صريحة الى بحثه العميق بشأن اغتراب الذات وحيرة الكائن البشري واسئلته الازلية، لهذا نلاحظ انه قدم في معرضه هذا الوجه المنظور والحاد من الهم الكوني لكنه ليس هما منعزلا عن الارض الام، اي ارضنا، واللوحة عنده لا تنتمي الى ارض محددة او زمان محدد عياني وملموس تماما ومع ذلك فهي تحمل عطر هذه الارض، تحمل تقويم زماننا وكل موروثه، وهذه المزاوجة بين المكانية والكونية تكمن في هذه المواجهة والتي يستشفها المشاهد في منجزاته فالفن عند المنصوري لابد من ان ينظر الى القاع، لابد ان يفضح هذا العالم الغريب، ولابد ان يشخص ويدين هذا الشكل الشاذ للحضارة، ويتحداه في اليد الشاهدة، الكف التي تدين الانسان الذي يتحمل ويقاوم حتى ولو كان غريقا والمنصوري توصلا مع بحث الرؤيا الجديدة لديه والتي لمستها عنده اثناء لقائه مع (المفكر والناقد الفرنسي الكبير روجيه غارودي) لدى زيارته الى بغداد في 25/ 11/ 1995 فان رؤيته تجاوزت حدود المألوف في الوعي التقليدي حيث تألق باطروحاته البنيوية عن الوجود والحياة مما كان له ابلغ التقدير والاعتزاز مع الضيف الكبير وكان اللقاء في تقديري مشروع صداقة كبيراً افضى الى فضاءات فكرية طيبة، فأعمال المنصوري مشبعة بوحي حضاري مضاد لكل ظلام العالم وغربته الشرسة، فهي تقدم وصلا مضادا للمتلقي الذي يكابد في التأمل كي يكتشف قوانين اللوحة، فهو على صعيد التكنيك يقدم تقنية جديدة في اللوحة العراقية وفي لوحاته بشكل عام وخاصة في هذا المعرض طرح اداء فنيا بحيث لا يمكن ان تكون في العمل الفني زيادة او فضلة تحذف، وطرح كل صراخه الثائر في تجريد معبر بهيئة رمز ليس مبهما لا مفتعلا بل مقدود من جلد هذا العالم وعظامه، يعمق معنى الادانة في اللوحة (وارجو ان ينتبه النقاد الى هذا المعرض الذي لا يضبب الرؤية او يموه الحقائق) وبالتحديد فلوحة غالب
المنصوري هي اصطفاء تعبيرية الملصق وقصيدته وخصوصية التكنيك.
ان معرض (العالم فراغ وفيه نقطة) يحمل ضياء التاريخ وحلمه معا، فنانا، شاهدا، معاصرا يشهد على تمزق العالم وغربته الوحشية، وهو بوصفه حرية ووعيا لهذا التمزق، يقدم الجهد الذي يخاطبنا ويخاطب العالم من خلاله، وعلى الرغم من ان هذه المفاهيم التأملية قد كونت منظورا فلسفيا لشاكر حسن ال سعيد ولجميل حمودي ولفائق حسن استاذ المنصوري لكن الاخير هنا وفي هذه الاعمال يختط لنفسه مسارا جديدا. واستيلادا لكل المتقابلات الشيئية ومن اجلنا-كهدف- وهنا تكمن تبشيريته وتحريضيته وانسانيته، ومن هنا يظل معرض الفنان غالب المنصوري يحمل هموم الانسان في مقابل ادوات الحصار وغربة العالم.. وهو كرؤيا فنية يتطلع الى السعادة برغم حصاره المزمن.
|