الفنان قاسم السبتي-يعرض إيقونات لونية تتعاشق فيها الأطياف والرموز

.

المقاله تحت باب  مقالات فنيه
في 
03/10/2010 06:00 AM
GMT



إيقونات خالدة برؤية نافذة و مضامين كبيرة ، تجذب العين للغور في أعماق الحقيقة والتاريخ من خلال بقايا أجزاء الورق والكارتون المغمسة برائحة اللون والدخان التي شكلت سطوحا أفقية وعمودية كونت مساحات لكتل مختلفة الأشكال في مجموعة أعماله أغلفة الكتاب وكما يعجبه و يطلق عليها تسمية  كفن ما بعد الاحتلال ، كان قد عرضها (2005 ) عام في بغداد وأوربا .

عمل الفنان قاسم السبتي بصمت  في أسطول المبدعين من الفنانين العراقيين ، أولئك الذين تقودهم بوصلة الروح وتدفعهم أشرعة الريح بين تقنيات الفن المعاصر ومادة الشرق البصرية وبين أحداث الوطن وخصوصية الفنان ، كان يبحث بصدق عن بدائل مخيلته  إزاء معاناة تربية الذات وبناء الشخصية الفنية بروح المتفائل العصامي و رغم ما يلفه من حزن قاسي داخل نفسه يخفيه بمرحه وتهكمه مع زملائه  ، فقد أصر بتفاؤله على أن يطرق موضوعا ليس بجديد ولكنه  ذا أهمية كبيرة مستندا على خلفية فنية أدخرها بحكم تواجده اليومي واحتكاكه الدائم والمستمر وسط الحركة التشكيلية  ، وما حصل عليه من معين التراكمات الفريدة التي أكتسبها من تلك البيئة الفنية المميزة ، وذلك المحيط الفني الزاخر بالإبداع ، لقد انغمست في أعماقه وتشربت في روحه تلك التجارب والإرهاصات التي أنتجت وترسخن كمفاهيم بمحتواها التشكيلي والتقني ، سواء كانت تلك المفاهيم أشكال قديمة أو معاصرة ، المهم أن الفنان قد أدرك ضالته وسعى ينهل من ذلك الخزين ثم يقوم بمسح شامل له في معمل خبراته وميزان معلوماته التي اكتنزها أبان  دراسته ، وبرغبة جامحة متلذذا بما وجده من مخلفات وبقايا أغلفة الكتب المتروكة والمتهرئة أو التي دمرها الحقد البربري لجنود الاحتلال متعمدين أو تلك الكتب المركونة على الرفوف المهجورة بفعل الزمن ! وأي زمن ؟ لكن على الأقل كانت بفعل ومس فاعل .

لقد أستطاع قاسم سبتي أن يهدم ويرمم ويعيد البناء من جديد  ليسجل لحظات الخراب والانهيار والتحلل والتآكل في الأمكنة التي شهدت الحدث ويلتقط ويلم الأشياء والعناصر ، لا ليدنيها لنفسه بل ليتخذ منها مجموعة من رؤى فنية وشاهد على عصره ، تلك هي لحظة انهيار البطيء، والقابل للمزيد من التآكل والتصدع والتعرية .
والمتابع لتجربة الفنان ألسبتي يلاحظ أن أعماله ( أغلفة الكتب) ينتقل من البنائية في تجريده السابق ، إلى التفكيك في اللاحق ، وأصبحت استخداماته في المواد هي لعبة الإبداع في حرية القص واللصق لأجزاء وقطع الكارتون و الخامات المختلفة لإنتاج بنائية جديدة  لمواضيع متعددة ومستمرة ولكنها كانت تكوينات إنشائية لعدة تصاميم لموضوع واحد متعدد المضامين ، وبتنسيق مرتبط بخوص المادة التي ساعدته على وضوح القيمة التعبيرية لجوهر الموضوع .

كان انتقائه لقطع الأغلفة الكارتونية لم يكن  اختيارا عشوائيا حتى لو تساوت  المساحات أو اختلفت الخطوط فهو ليست مقصودة بذاته ، وإنما طبيعة الزمن وما تركه المحتل وجنوده من تدمير وتخريب مع تفاعل مخلفات الماء والنار والدخان والعفونة تشربت في الكارتون والقماش والخيوط والمواد اللاصقة والورق ، وما حل من خراب  استطاع ألسبتي أن ينجزه أعمالا زاخرة بدراما الحروب  .

أن محاولة البحث في تكوين الفنان قاسم ألسبتي يتطلب الرجوع للبدايات ، لنشأته في الحي الصغير ( ألكسره  ) المجاورة لمدارس الفن ،  المعهد والأكاديمية ، وبعد تخرجه من كلية الفنون الجميلة عام ( 1980 ) شارك في عدة معارض فنية جماعية وطنية ولكنه لم يفصح فيها عن رؤيته الفنية بعد ، كان منحازا للأسلوب الواقعي والتعبيري وأحيانا الأكاديمي .

لقد تريث كثيرا قبل أن يبدأ الآخرون لكي يراقب عن كثب ما يطلقه زملائه الفنانين من محاولات الصواب والخطأ متسلحا بأدواته الأكاديمية وأرشيفه التشكيلي ، لينسل بهدوء من بين زحمتهم وتكالبهم على عرض أعمالهم في بيته ( قاعة حوار ) التي فتحت بابا واسعا للتجارب الفنية الجديدة منذ تأسيسها عام 1992 ، فلم يبدأ بما أنجزه الآخرون ، بل كان قد اكتشف تلك الومضات والمؤشرات والحلول وصياغة الأهداف ، مضافا لها علاقاته الواسعة مع المثقفين ، ووعي الذات ومعرفة الجمهور المتذوق وشفافية الفن ، وكذلك فهمه العميق للعصر القائم على التغيير والتجديد وتقربه من المؤسسة الفنية ، كل هذا المؤشرات كانت له حافزا لينهض منتقلا من محدودية الواقع إلى فضاء الحداثة في رؤية جديدة نابعة من الوجدان تفعل فعلها السري في إبداعه ، متناولا الجانب المأساوي وما عم من دمار في العراق !؟ .

لقد رصد الفنان تلك المأساة بعين نافذة ، محتجة ، ناقدة ، وجرد الحدث وفكك المشهد ليعيد بنائه من خلال التوزيع المدرك لكافة عناصر العمل الفني ، مستخدما تقنية جديدة ومواد مختلفة من خلال أحادية اللون وهارمونيته ، أحمر بلون الغلاف ، وفستقي مكشوط من جانبه العلوي أو أصفر أقتلع جلده وبرزة أحشاء الكارتون القديم  ، و يثيرك بتلك التأثيرات التي صنعتها ألته الحادة بعناية على سطوح أغلب أعماله من الشقوق و بقايا الحروف المبتورة لتشكل علامات تحرك الكتل و تتناغم مع المساحات المتلاصقة  وتستنطقها ، مبينة الهمجية في تهديم المدن والحضارة وتسجل لحظة الانهيار الكامل .

أن أغلفة قاسم سبتي إيقونات لونية ، تتعاشق فيها الأطياف والرموز وهي تحكي لنا حالات لا إنسانية غريبة مرت بالعراق بقساوستها ولكننا نفهمها ونستشرف المستقبل من جماليات الإبداع الفني في أعمال الفنان  .
   د. صبيح كلش
www.kalashart.com