مقاربة سيميائية جديدة: الصوت في اللوحة!

.

المقاله تحت باب  محور النقد
في 
09/02/2008 06:00 AM
GMT




لا يدخل الصوت هنا بصفته الفيزيولوجية ( حيث تتسبب الامواج التي تحدثها حركة معينة في الوسط الناقل - الهواء مثلا- الى اهتزازات في سائل القوقعة الداخلية في الاذن البشرية والتي تحفز بدورها مستشعرات خاصة تترجم هذه الاهتزازات الى ايعازات عصبية) رغم ان الصفة الايحائية التي تمنحها المقالة للصوت تلتقي مع الصفة الفيزيولوجية في امرين مهمين اولهما : ان الصوت في كلا الحالين ناتج من الحركة، فعلا    ( في الطبيعة) او ايحاءً ( في اللوحة)، والثاني إن آلية ادراك الصوت وتفسيره هي آلية عقلية في النهاية. 
وهنا يظهر سؤال مهم،  وهو ما سبب غياب النقد الفني عن تناول هذه الظاهرة؟ ربما  يعود ذلك الى اقتصار النقد الفني في النظر الى اللوحة من خلال تاثيراتها البصرية المباشرة ، برغم ان بعض الفنانين حاولوا ان يعبروا عن تجاربهم في هذا الميدان، حيث أعلن سيزان مرة رغبته في ايصال صوت الصندل على طريق كان يزمع رسمه. 

إن الصوت باعتباره حركة ( ذبذبات)  في الاساس يتم التعرف عليها ( سماعها) من خلال اهتزاز طبلة الاذن هو حقيقة معروفة فيزيائيا ، ولكن هل هل توجد حركة في اللوحة؟ يرى الفنان قسطنطين شيركاس ، ان عنصر الحركة يتم في اللوحة من خلال: (التاثير الكلي لمكونات العمل : شدة التباين بين الضوء والظل ، سرعة الايقاع، اتجاه تركيبته الخطية، حتى قوام ضربات الفرشاة والتفصيلات الاخرى اضافة الى التكوين) اي ان هذه العناصر مجتمعة سوف تجعل عين الناظر الى اللوحة تتحرك حسب سيطرة هذه العناصر وبالشكل الذي يعطي الايحاء المطلوب بوجود الحركة فعلا، اي ان الوسيط الذي يترجم حركة اللوحة او يمنحها المصداقية هي حركة عين المتلقي الواقعة تحت تاثير تظافر مكونات الوحة الفنية وهنا يكمن الاختلاف بين الحالة الطبيعية والحالة الفنية. ولكن هل يعني كل ايحاء بالحركة في اللوحة وجود ايحاء بالصوت (اقتران كل صوت بحركة) . وهنا نجد تشابها مثيرا ما بين الناحية الفيزيولوجية والفنية، فمن الناحية الفيزيولوجية فان سماع الصوت يشترط وصول الذبذبات الى مستوى معين لتتمكن الاذن من الاستجابة ، كذلك الامر في اللوحة ، حيث بتطلب الامر هنا ،  دخول عنصر آخر لايصال الايحاء المطلوب وهو الموضوع وبتحديد أدق رغبة الفنان في ايصال  هذا الاحساس للمتلقي.  لايضاح هذا الامر سنتناول خمس لوحات كأمثلة على وجود الصوت بوصفه ايحاءً في اللوحة.

                                  
إعدامات الثالث من ايار لغويا
اللوحة الاولى هي لوحة اعدامات الثالث من ايار للفنان دي غويا. إن أول ما يصل الى وعي المتلقي في هذه اللوحة هو صوت اطلاق النار على الواقفين في اليسار ، و السبب في ذلك  يعود في الاساس الى عامل الاضاءة ، فالاضاءة النارية غير المتوقعة (عدم وجود مصدر ضوئي مفترض) وكان الاضاءة هي اضاءة الاطلاقات النارية نفسها- هذه الاضاءة التي جعلها  دي غويا مركز اللوحة والتي تضافرت مع عناصر التكوين ممثلة بالحركة القوسية التي ترسمها خوذ الجنود باتجاه المركز مع حالة التأهب القصوى لاطلاق النار والاوضاع التي اتخذتها اجساد المزمع اعدامهم وهي توحي باللحظة الحاسمة، تقود وعي المتلقي الى تمثل صوت الرصاص ،  وهنا يأتي دور الآلية الثانية ، التي يلتقي فيها عنصر الصوت بوصفه الفيزيولوجي ودوره الايحائي هي آلية الادراك والتفسير ، لأن الفنان استطاع ان يصعّد من استجابة وعي المتلقي الى منطقة يستطيع معها أن يصل الى منطقة يستدعي معها صوت الرصاص من الذاكرة . الفرق بين الحالة الفيزيولوجية الطبيعية ، أن آلية الادراك والتفسير هي آلية طبيعية passive ،  بينما في حالتنا هنا فهي حالة يساهم فيها المتلقي  active  ساعد على تحقيقها التصعيد الفني الذي مارسه الفنان.

 

 

لوحة فرانز هالس

وصفت لوحة يونكر رامب وحبيبته (Yonker Ramp and his sweetheart)  للفنان الهولندي فرانز هالس Frans Hals  والمرسومة عام 1623 ، بانها (وظفت عنصر التوقيت الذي بشرت به لوحات كارافاجيو بافضل صورة حيث تبدو الفرشاة اسرع من العين اذ يحاول الفنان اقتناص اللحظة السعيدة). ان تسارع ايقاع ضربات الفرشاة على ملامح الشاب (وكانها لوحة انطباعية مبكرة) ، مع توظيف عنصر الاضاءة ، مضافا الى التكوين الذي يتخذ اداء تصاعديا باتجاه الكأس . و محاولة الفنان اقتناص اللحظة ، يوصل وعي المتلقي لسماع ضحكاته الشاب  العالية التي تملا المكان،

مثال من رمبرانت 

في لوحة رمبرانت Rembrandt  المسيح في عاصفة  بحيرة الجليل  (Christ in the storm on the lake of Galilee) والمرسومة عام (1633) ، تلعب الاضاءة الدور الابرز في اظهار الصوت، فالتباين اللوني بين النور المسلط على الموج الذي يضرب القارب مع ظلمة القارب بركابه المذعورين، مع رغبة الفنان لجعل التباين اللوني الحاد في بؤرة التقاء الموجة بالقارب يزيد احساس المتلقي بوطئة الصدمة الشديدة ، فلا يبقى هناك حاجة ليبذل المتلقي مجهودا،  لكي يستدعي صوت الارتطام لتكتمل عنده الصورة. 

منظر مائي لمونيه

مع الاسلوب الانطباعي ورغبة الفنانين  الشديدة في تسجيل انطباعهم المباشر للمشهد، برز عامل الصوت بشكل اكبر مع الاشارة الى تكريس اكبر لضربات الفرشاة في اللوحة الانطباعية، خصوصا في لوحات مونية الذي كان من اكثر الفنانين حرصا على نقل تاثير اللحظة في اعماله الفنية وكما يقول جورج هيرد هاملتون في وصف لوحات مونيه (نوع جديد من الرسم يكشف طبيعة الادراك اكثر من طبيعة الشيء المدرك) وهنا يمكن اعتبار لوحة (قوارب المتعة) المرسومة 1873 لكلود مونيه مثالا بارزا ، ان المشاهد امام التركيز الشديد لايقاع الشاطئ في العمل ، يدرك صوت اقتراب المويجات من الشاطئ، لقد منح مونية منظره المائي حسا حقيقيا بالامتلاء. هناك ايضا لوحة غداء في سفرة الزوارق للفنان رينوار 1881 حيث يجرنا التكوين الحيوي المتنوع و تموج الضربات  الفرشاة خصوصا في الخلفية ، الى سماع اصوات المتحدثين وهي بعد محتفظة بطراوتها. 

لعل من الاسباب التي جعلت الاعمال الانطباعية محتفظة بتلك الحيوية والادهاش هو ما منحته للمتلقي من عناصر خارج جماليات التجربة البصرية المجردة والمباشرة وربما كان لحرصهم الاصيل لنقل الحس باللحظة اثرا في جعل تلك المناظر التي رسموها تحتفظ باصواتها وروائحها وهو امر لم يوفق أي اسلوب اخر في ايصاله بنفس هذه الصورة.