علي النجار يعرض في لندن:متاهات اللون وجزر الفراغ

المقاله تحت باب  مقالات فنيه
في 
01/03/2008 06:00 AM
GMT



تكمن أهمية الفنان علي النجار في جمْعِه بين موهبتي الرسم والتلوين. فهو من الفنانين العراقيين القلائل الذين يُولون اللون أهمية كبرى الى الدرجة التي يتحول فيها السطح التصويري، بعيداً من الموضوع، الى معلم بارز كما فعل سَلَفه فائق حسن. ومن يطيل النظر الى لوحات علي النجار العشرين في معرضه الأخير المعنون «حدود الذاكرة» والذي احتضنه غاليري «Posk» في لندن، يكتشف أن هناك شبكة من العلاقات اللونية المعقدة والمدروسة بعناية فائقة، فالألوان الصريحة تخفي موضوعات غامضة لا يمكن إستدراجها وفك مغاليقها بسهولة ما لم يتأمل الناظر بعمق الى وحدات اللوحة وتكويناتها الأساسية، وهي للمناسبة ليست كثيرة في الأعمال الفنية لعلي النجار. فلوحته، في الأعم الأغلب،ً متقشفة مقتصدة، شديدة التعبير والرمزية، تعوّل كثيراً على الدلالات الفنية والجمالية والأساطير الشخصية التي يجترحها الفنان من مخيلته المحتشدة بالصور والألوان القارة وغير المتعينة. إن عدم اكتظاظ لوحة علي النجار بالموضوعات، دليل على جرأة الفنان وحريته في التعامل مع قماشة الرسم التي تحتضن أفكاراً قليلة محددة، لكنها تقول أشياءً كثيرة.
الفراغ في لوحة النجار ليس إعتباطياً، وإنما يأتي وفق رؤية فنية تهدف الى ترويح عين المتلقي، وتتيح له إمكانية السياحة في متن عدد من الرموز والإحالات البصرية التي لا تخلو من صعوبة. لوحات مُضمرة، ومواربة، وعصيّة على التأويل، ولعل أبرز معالمها هو هويتها الهلامية المتداخلة التي تجمع بين التشخيص والتجريد تارة، وبين البساطة والرمز تارة أخرى مُستعيرة مادتها من الأشكال البشرية والحيوانية والنباتية من دون أن تهمل الأشكال الجامدة التي يبثَّ فيها الفنان حياة نابضة متحركة تشي بقدرته على الخلق والتكوين الفنيين.
إن السمة الأساسية في لوحات علي النجار هي هلاميتها وإمتداداتها الأميبية المنسابة بحركات متمعجة مسترخية تخلق عوالمها الدالة التي تقودنا في أغلب الأحيان الى المناطق النفسية النائية، خصوصاً وأن الفنان قد مرَّ بظروف صحية شائكة استأصل فيها الأطباء الجرّاحون «وحشاً سرطانياً» كان يفتك بخلاياه جسده. ومنْ يمعن النظر الى هذا الوحش سيجده، كما وصفه الفنان «وديعاً بملمس ناعم يخلِّف رعشة في الأنامل» هذا الشكل الهلامي الإسفنجي بدأ يتكرر كثيراً في لوحات علي النجار منذ أجرى عملية الاستئصال الخطيرة وتجاوزها بعد أن تشبت بقوة الإرادة، وحق العيش، وحُب الحياة على الصعيدين الإبداعي والبيولوجي. إن سؤال الموت يفضي بالفنان المبدع على حافة الهاوية، مرشحة للسقوط في يوم ما، وكل ما تفعله الإرادة هو أنها تطيل من مدة التوازن القلق، وتكشف لهذا الكائن المتأرجح جزءاً من المساحات العصية التي أشرنا إليها سلفاً. في أحد معارضة السابقة التي انضوت تحت عنوان «لغة الجسد» الفنان على ثيمة واحدة تمحورت على الجزء المُسرطّن من جسده، غير أن هذه الثيمة الحساسة أخذت شكل المتوالية القصصية. فكل لوحة هي قصة واحدة، غير أن خيطاً لا مرئياً يجمع بين هذه القصص جميعاً لتؤلف ما يشبه العمل الروائي الذي يكتمل بمجمله، كما أنه يضيء للمتلقي بقعاً خاصة إذا ما اختار المُشاهد أن يتمعن في كل لوحة على انفراد. لا شك في أن السؤال الشكلاني يتحدى الناقد التشكيلي أولاً لأنه معني قبل المتلقين في الإجابة على الأسئلة التي تطرحها الأعمال الفنية الغرائبية لعلي النجار.
يمكننا القول باطمئنان أن العالم الفني لعلي النجار هو عالم سوريالي تتجاور فيه الغرائبية والحس البدائي والتشخيصية الى جانب التجريد التعبيري المقنن بلمسات الفنان وخصوصياته الشكلانية... هذه المناطق المشتركة، مقرونة بخصوصية الفنان اللونية، هي التي تؤسس عالمه الذي يتماهى مع البراءة والطفولة، وموسيقى اللون المنبعثة من أعماق الذاكرة البعيدة التي تختصر المسافات في عمله الفني الذي يجمع فلسفة الجمال وجمال الفلسفة التصويرية حينما تأخذ الثيمة شكل المتاهة البصرية. علي النجار من مواليد بغداد عام 1940. تخرّج في معهد الفنون الجميلة (ببغداد) عام 1961. أقام عدداً من المعارض الشخصية والمشتركة من بينها معرض الجمعية الكويتية في الكويت، ومعرض السنتين العالمي الثالث في القاهرة، ومعارض الفن العراقي المعاصر في دمشق وموسكو وبرلين. ومعرض المركز الثقافي الأسباني في عمّان. ومعارض شخصية ومشتركة في السويد.