• حقيقة الاعتناء بجوهر الأشياء وطرائق التعبير عن الذات الإنسانية هي معيار وتقدم الحضارة بمجمل محصلاتها الروحية .... النفسية ....والمادية وكل ملحقات ذالك الاعتناء والخيار المرسوم في تأملات ونواتج الإبداع ،،،ومن لا شأن له في حسم ومعرفة أهمية الاختيار في مجاله وقدرته التعبيرية لهو اقرب للموت من الحياة ,, كون انعدام نسق و توافر هذا الشرط الذي يميز الإنسان عن باقي كائنات الحياة هو إعلان حتمي للمراوغة المتكررة لحياة لأتحسب لحظاتها و دقائقها الأبحساب أدنى من مقومات وشرط الحضارة متمثلة في تناغمية و تفاعل الفرد ,بشكل خلاق , مع الجغرافية في صنع التاريخ البشري الذي أ سهم ويسهم فيه أولئك الذين لا يؤمنون بالمالوف , بل أولئك الحالمون القادرون على ترك بصماتهم واضحة مثل أعمالهم في سجلات الوعي وخطوات تقدم الحضارة ... يقينا أن العقل ومناورات أفعاله كانت قد سبقت الجرأة والتي هي شكلا محورا لمعنى المغامرة المدعومة بوعي وموهبة وقدرة على الإسهام والمشاركة في صنع الحياة . • لقد صارع النحت مثلما فعلت ذلك جميع الفنون حاجات الإنسان ولاذ بتلك النزعة الأبدية من كون الفرد عبارة عن مجموعة من الحاجات يقف الأمن وتوفير سبل العيش الأولية في أسفل سلم الهرم لها .. تصاعدا وبحثا ودأبا وصولا إلى مراتب اعتبار وتأكيد الذات وتساميها عبر نواتج العمل الخالد , الوثاب , نحتا وتحريضا ودفعا في صياغة الحضارة وصيانتها مع تقادم الحقب والأزمان ... ثمة اقتران جدي مابين فن النحت ودراسة التاريخ حتى تشعر أن الأول كان قد ولد في ذات الأهمية التي جاء بها الثاني في حسابات الانثروبولوجيا ودراسة تاريخ الفن .. النحت بكل تحولاته الشكلية والاجرائية منذ زمن الكهوف وتوالي نشوء وارتقاء الحضارات العالمية القديمة / المصرية / السومرية / البابلية وما جاورها من حضارات أخرى , حتى عصر النهضة والنحت الرومانيطي وما توالد من أثار وإنجازات رسمت ووسمت هذا الفن القديم المتفاني .. المعبد بالمعاصرة وتنويعات وتطلعات الحداثة وكل محاولاتها وانجرارها في فلك الأساليب المختلفة , وهي تحاول وتدفع باتجاه دفع عربة الرتابة وملل التكرار والركض بالحلم وراء فعل مغاير لما هو سائد ومألوف في ابسط استدلال نوعي لتواصل أطر وأواصر الهم ونواحي التعبير الرصين ,, ولان النحت في العراق يقف في واجهات دراستنا واهتمامنا وفحصنا لعمق نواتج ماتنامى وتجذرفي غرين هذه الأرض منذ فجر طلائع الوعي الأول لإنسان بلاد مابين النهرين ..لذا يجب مراعاة التجانس وتفريغ محتويات اللاشعور الجمعي في مكونات ما وصلت إليه نواتج وإنجازات النحاتين العراقيين حتى زمن التماعات واشراقات المعاصرة والحداثة وترسيخ اهمية موجودات النحت في اهم مفاصل حياتنا الراهنة ومشاهداتنا اليومية لنصب حرية (جواد سليم) كهرمانة او قهرمانة ( محمد غني ) ونصب الشهيد ل(اسماعيل فتاح ) وحداثة نسور ( ميران سعدي)المحلقة بلانسور في ساحة النسور /كرخ بغداد وغيرها من اعمال وتماثيل ..هي ابهى محصلات ماتوصلت اليه مخيلة الفنان العراقي المعاصر .. ونحن نتصادم معها بصريا وذهنيا ووجودا روحيا , حتى انها غدت معالم لتاثيث الذاكرة والذائقة البصرية لنا,,كل يوم . * * * • عبر إجراءات ما ورد في تنوع النحت الحديث في العراق وسياق محاولات وتجارب هامة .استطاعت ان تطل بأعناقها وتشرأب من بين أشجار غابة العمالقة بعد ان غرست جذور وعيها في مساحات ارض قديمة , قدم الانسان نفسه ,,نحاول بعد كل هذا التمهيد الضروري , رصد وتقييم تجربة النحات (هيثم حسن ) تولد 1957 دبلوم ـ نحت / معهد الفنون الجميلة ـ بغداد 1980 بكالوريوس ـ نحت كلية الفنون الجميلة ـ بغداد 1987 مقيم الان في الاردن ومتفرغ للفن .. وقبل تناول تجربته الهامة تحليلا ونقدا واظهارا لقابلياته ومجهوداته الكبيرة في مجال حياته وحبه وتفانيه لهذا الفن , نسوق هذه المعلومات .. اقام عدة معارض منها ( الابدية المستعادة / قاعة عين / بغداد/ 1993) اجساد حالمة / مركز الفنون - 1993) حوار الجسد / قاعة ابداع ـ 1994) ( برونزيات / قاعة حوار - 1996) ( حديقة البرونز / قاعة حوار- 1996) ( تحية الى اسماعيل فتاح ـ دار الاندى / عمان2004) ثم معرضه الاخير على قاعة الاندى , ايضا , هذا العام... نال جائزة النحت الاولى في معرض الفن العراقي المعاصر 1986... جائزة النحت الثانية ـ مهرجان الواسطي السادس بغداد 1968 شهادة دبلوم معرض هنغاريا العالمي السابع للمنحوتات المصغرة 1987.. حاصل على ميدالية جواد سليم الذهبية 1987 .. الجائزة الاولى للنحت مهرجان الواسطي السابع ـ مهرجان بابل الدولي الخامس 1993... جائزة الدولة التشجيعية للفنون ـ نحت من وزارة الثقافة العراقية 1997 وشهادة تقديرية من ملتقى النحت العربي الاول جرش ـ الاردن 1997. • تحمل تجربة الفنان (هيثم حسن) مقومات وعيها وانفرادها وتميز خصائصها التعبيرية ومقاصد بحثها عما يديم وجودها عبر تبنيها لافكار ورؤى تتعلق بالحياة الابدية ومحاولات استعادتها من خلال النحت ,, عن مثيلاتها من تجارب النحت العراقي الحالي بفعل تمرد نزعتها وقصدية مدلولاتها حتى حين تقترب ـ قصدا ـ من ملامح تاثيرات الفنان الراحل اسماعيل فتاح الترك ونهل بعض مفردات ماترك هذا النحات الكبير من ارث بصري .. حيث يبقى متوجسا حذرا للمناطق والحالات التي ينوي الدخول اليها مثلما فعل وغامر وهو يقيم معرضه الشخصي في عمان 2004(تحية الى اسماعيل فتاح) بعد رحيل الترك , لبيقى في مأمن عن أي تقريع وصدمة ووشاية تجرح ذلك الزعم بمشرط التأثير وألاقرب الى الاعادة والتقليد عكس مارسم وناور ( هيثم حسن ) في حفر بئر تجربته وتنوع واستمرار بحثها المغاير للسائد والمتكرر من تجارب النحت, عندنا, لما تتمتع بخصوصية اجرائية لم تنقطع او تضيع اصول جذورها النحتية , التي بقيت متفهمة لمعنى التفرد وتطويع مكملاتها باتجاه غرس محتوى الفكر وتفرعات التعبير وفهم اهمية الاسطورة في هذا المجال السخي والحي في استقبال تلك التفرعات وصولا لحل قادر كان قد طوع مهاراته وجراته واستبساله في اقامة معارض مهمة وكبيرة قياسا الى عمر تجربته والتي احيى وأدام وجودها بمشاركات مع فنانين اخرين ( رسما ونحتا ) في ظروف يصعب فيه , جدا إقامة معرض شخصي واحد للنحت ... قلت ونوهت مرارا وكتبت مايعلن عن شحوب معارض النحت في العراق وقلتها أمام عافية الرسم وكثرتها .. قد لايكفي هذا سببا تقيميا لمنجزات نحات يقاوم الضجر والشعور بالوحدة .. وربما اللاجدوى .. ويالها من لاجدوى مجدية , رغم مرح روحه الظاهرة ومتعه احساسه بالحياة والتفاني من اجل كسر جدار الخوف والحساسية الزائدة ودحره لكل محاولة للتعصب , واعادة ترديد أن الحياة تنفي وتطرد من لايتوافق معها ... لذا تشعر بمخلوقات واجساد ( هيثم حسن ) تهيم رغبة وودا واملاً بالتحليق والطيران وتموجها النقي بالرقص واندلاع أرواحها في فضاءات من الحركة والليونة والتباهي بوجودها , بيننا . بفعل ذلك الاستعداد التتابعي في تمرير مشروعية البحث وقدرة التوليد المستمر والمتنامي داخل العمل الواحد في المنحوتة التي يبصرها وينجزها الفنان ... مخلوقات بأجنحة ملونة تتبارى مع دواخلها وتتحاور وفق مقتضيات لغة الجسد واستجماع قوة الحواس وتماهيها بحثا عن نطق وتعبير خاص وبليغ تبوح به منجزاته البرونزية وتلك المنفذة بـ ( الفايبر كلاس)وصراحة الالوان التي يستثمر طاقاتها الدرامية لصالح عمله النحتي , عبر صياغات قلبت حال واجراء موازين هذا الفن وكسرت ايقاع ما ألفنا رؤيته ومتابعته في تجارب كثيرة في العراق .. على اقل تلويح , وأخذت به عودة الى الطين والغرين , ليخفي ( هيثم حسن ) ثقل ومألوفية المادة بفضل ايهام مضاعف . ماكر وجدي وجريء يتعلق بقدرة التأمر الحاذق والمطلوب ـ هنا -على اصل المادة الصلدة ( البرونز) وتطويعها الى حيث ليونة وملمس الطين ... أصل ومنشأ حضارتنا ووجود خلقنا ... بالاضافة الى استثمار سحر وهيمنة الالوان وتاثيرها الغريزي في سحب اهتمام المتلقي الى مكانة العمل الفني وبثها بهذا التدفق وحسن الاعتناء بوجودها ضرورة , لاترفا او مجرد مغامرة تتخاتل مع ألجرأة التي ليس في محلها او وقتها .. بل معالجة جادة وذكية تحترم اصرة وحدود المعادلات الكيميائية , نسقا مع احتفاظها بروح وجلال وأبهة الجمال في صنع سعادة الانسان ... بجو من التلاقي من روح وأهمية الاسطورة في دفع حياتنا نحو الراحة والتامل والخيال حيث يجاري ( هيثم حسن ) محاولاته بحرص وتحريض مبهر , يلامس حجم حاجاتنا للخيال والاسطورة في تخفيف وطأة الحاضر القاسي والمدمر ـ حصرا في خضم انجراراته الاخيرة وتحقيق امتاعية التعبير باللعب على مكامن واوتار النفس من خلال تلاوين العزف على بيانو الجسد ومنحه طاقات تعبيرية تفضي الى موضوعات تنشئها تلك العلاقات والاستحضارات الوجدانية والتاريخية وهيمنة روح الاسطورة والتلويح بالابدية المستعادة حلما ومناخا متخيلا حرا ... طليقا وفضح مقاصد التحفظ وتعرية الاجساد وسترها ان اقتضى ذلك مسعا وتعبيرا وكشفا عن دواخل ماتخفي النفس من براثن الاحقاد ونزعات الشر التي يحاول الفنان الحقيقي تطهيرها بالفن ... انها استعارات بدائية , تبدو للوهلة الاولى ... لكنها واعية وحافظه لدورها الجمالي والحسي يداعبها الفنان ـ النحات بمهارة ودراية لكي يجعل منها منجما لاحلامه وأمانيه التي تريد التحليق أو الفرار من اماكنها وتصوراتنا لها ..مهما حاول او ناور (هيثم حسن )في تاطير بعض اجزاءها بمربعات تعطي الشكل النهائي للعمل النحتي او الموضوع بعدا تصميميا ... تكامليا لعلاقات الجزء بالكل .. غير ان هذه المخلوقات , لاتنصاع لذلك التامر الضمني الذي يجريه ميلا أونزعة لقبول أعماله من قبل المشاهد والمتابع بعد ترك الحرية للالوان في اكمال واجبها على نحو مايريد هو ... وتلك مزية تاشير لصالح مشروع وعيه الجمالي الملون والمتفرد بدخول ادوات الرسم وسيطا في النحت .. وأن كان الفنان ( محمد حسن عبد الله ) قد سبق ( هيثم حسن ) في ادخال اللون على المنحوتة ,,, فان هنالك فرضا قائما يفصل ويشيد بمحاولات ( هيثم ) نحو تمجيد علاقات الانسان بالاسطورة وبالاخرين . داخل مصفوفات ووحدات وانتباهات لامجرد اجراء أو اثارة تشبه ذلك الضوء الذي يعطي نورا ولا يعطي حرارة.. اعمال تنشيء وجودها وتثمن صلة الوصل بين الفكر والجسد بخلق وحفر تناغمات مابين الانسان وضله..ومابين الانسان ومحيطه .... مابين الانسان وتأريخه الثمين اعترافا بأهمية ماصنع من حياة وحضارة .. بتنامي الشعور الى المخيلة والحاجة الى فعل الاسطورة وفعالية سحرها الاخاذ ... أعيد كلمات من قال ( أن الانسان المعاصر , استطاع أن يعقلن الاسطورة , غير انه لم يستطيع تحطيمها ) • كلها مقومات فرضت اسباب الاحتفاظ بجدية وقوة مساعي هذا النحات واستفار طاقاته الابداعية من اجل ترويض عالمه بما حقق وبما يحاول ويخفي من ميول متوافقة مع مايحلم في أن يتجول العمل النحتي والفني الذي ينجزه في حدائق الروح واللون والاسطورة وصلابة وقوة الكتلة في مواجهة سبل الفراغ وتعشيق وحدات الرسم ... مع متطلبات وتقنيات النحت واناقة التصميم خروجا بانجاز ينسي المشاهد ـ المتلقي ساعات مضنية وجهد متواصل وكد ومراحل عمل لاتشبه سحر وجمال المنجز النحتي الذي يسعى اليه أي نحات حقيقي ومبدع يلوذ بمكملات وعيه في عدم الوقوع في فخ المالوفية والاجترار ومغافل التلقيد الذي يراوح بالفن ويرهقه من دون ادنى تقدم أو راحه ابداع . • (( لاتفعل مافعلت )) هكذا استشاط غضبا النحات العالمي ( مايكل انجلو ) حين رأى احد طلابه يقلد عملا له ,,,, ويالها من حكمة غاضبة ,,, ودرسا من دروس التفرد في حياة أي فنان مبدع .
حسن عبد الحميد بغداد 3 / 6/ 2006
|