الجزء الاول
1 - المرأة في حقبة التحول
2 - حال الاداء
3 - اعماق التعابير المقامية
4 - محاولات المرأة
5 - رفض الرجل لفنون المرأة
6 - امكانيات المرأة
(1)
المرأة في حقبة التحول
مرة أخرى عزيزي القارىء اتجول معك لنتأمل موضوعاً آخر يخص تراثنا الغناسيقي – المقام العراقي - بعـد أن كنتَ معي وأنت تقرأ ما تم نشره من هذه السلسلة – محاور في المقام العراقي – منذ نيسان April من هذا العام 2008 .. اكتب إليك في الجزء الاول هذا من محور رقم (16) عن المرأة وعالم المقامات العراقية ، ودنيا الاداء المقامي … كما لو كانت اصداء بعيدة لقرون الفترة الوسيطة التي أطلق عليها المؤرخون بـ (الفترة المظلمة) ، التي عاشها العراقيون من آبائنا واجدادنا وعشناها نحن بخيالاتنا وتأملاتنا من خلال مؤدي المقام العراقي على مر الزمن الماضي وكلهم من الرجال ..! تبدو كما لو كانت عودة إلى الشباب وحيويته …
إن عالم المقام العراقي ، بل عالم الموسيقى التراثية ، ريفية ، بدوية ، صحراوية ، جبلية ، مدنية .. عالم أصيل ، فما انقطعتُ يوماً عن هذا العالم وعن هذه الحقبة الاصيلة من تراث امتنا الذي يحمل في اسمه وشكله ومضمونه ، الشموخ والرفعة … في هذه الأرض ، ضمائر آلاف الموروثات .. وفي احلام ابنائها الف أمل وأمل .. المقام العراقي .. نبض هذه الامة .. ماوقع في يدي كتاب يخصه إلا قرأته أكثر من مرة ، ولا تسجيل صوتي أو مرئي إلا سمعته أو شاهدته .. ولا مقال في جريدة أو مجلة أو كتاب إلا قرأته وتلذذت بقراءته .. جمعت الكثير من هذه المدونات ، حباً بها ، وفائدة لاهميتها التوثيقية .. تماماً كانت الفائدة كبيرة بالنسبة لي عندما درست الموسيقى والمقام العراقي ثم قمت بتدريسهما في نفس المعهد الذي تخرجت منه ( معهد الراسات النغمية العراقي ) ونفس الكلية التي تخرجت منها ( كلية الفنون الجميلة ) جامعة بغداد …
فـي البـدء كانت التأثيرات المباشرة ، كان ذلك بعد سنة 656هـ – 1258م .. نهاية عصر العباسييـن .. المغول التتـر .. الجلائريين .. تيمور لنك .. دولة الخروف الاسود ( القرقوينلو) .. دولة الخروف الابيض ( الاق قوينلو ) .. الصفويين .. العثمانيين .. الإنكليز .. قرون سبعة تناوب فيها الغزاة احتلال العراق .. كتبت فيها آلاف بعد آلاف من قصص المأساة والرعب .. و .. و ..
هكذا انقضت مائة بعد ثانية بعد ثالثة من السنين في غزو بلد الحضارات .. لم يكن فيها الإنسان العراقي لوحده يقاوم الغزاة .. كان العمق العربي بكل ممتلكاته يقاوم .. وبه جابه العراق كل محتليه بسلاح .. الدين .. اللغة .. التاريخ وهكذا بقي العراق رغم قساوة الظروف طيلة هذه القرون واقفاً على رجليه دون يأس أو قنوط .. أثّر وتأثـَّر ..
استمع عزيزي القارىء إلى لغة معظم الاقوام التي احتلت العراق ترى بصورة واضحة الكم الهائل من المفردات العربية في عمق لغتهم .. هذه المرحلة من تاريخ العراق التي امتدت فيها الفترة المظلمة لسبعة قرون .. يقابلها في التاريخ الفني من الاداء المقامي مرحلة من مثلها ..
زلزلت الظروف زلزالها وأمست المرأة بعيدة .. ففي كل عمق عراقي وفي كل جبين .. وكل قلب ، نما شعور حر يتمرد على كل ظواهر الظلم .. بعد ان غدت الحياة حزينة حتى الاعماق وأمست المرأة بعيدة كل البعد عن مسرح الحياة وعلى الأخص بعيدة عن الموسيقى .. ومع ان العراق لم يكن قادراً على مواجهة المحتلين بصورة عملية فعالة .. إلا أنه كان مشعاً بثقافته ولم يتوقف وظل يسعى والله يقوده.
مرت القرون والمراة بعيدة عن مسرح الاحداث خاصة الفنية منها.. والمرأة عالم.. ذو آفاق لا تنتهي ، امكانيات ، مفاجئآت ، جمال يورث الجمال ، تعابير ادائية ذات غنىً وثراء ، رقة ، عذوبة ، تفاؤل ، وانهار تنساب بانسيابية رقراقة وشفافية معبرة , تعبر عن جلال قيمة المرأة .. ورجال اتعبتهم انانيتهم وقد اجبرهم العصر على فسح المجال لمشاركة المرأة وعطائها خارج البيت..!
(2)
حـــال الاداء
لنتأمل جميعاً ، كيف حال الاداء المقامي وأخيلة الناس المستمعين ..؟ وماذا يمكن ان يكون عليه من الخصب ..؟ ومايمكن ان تبنى عليه من تعابير مقامية ادائية جديدة ، وماقد تبتكر وتصاغ مـن عوالم جماليـة بولـوج المرأة عالم الاداء المقامي لاول مرة في تاريخها ..!؟ من المؤكد ان هذه الصفحات لاتفي للاحاطة بكل الغنى والثراء بفن المرأة ، خاصة وهي تغني تراثاً سمته التعابير الرجولية والانفعالات الحادة ، حد الخشونة .. صدق – امانه – اخلاق – مبادىء – قيم – شجاعة – نبل – رجوله – بطوله .. حيث يمكننا ان نطــلق عليه ( الفن الرجولي ..! ) .
لم ابدأ بكتابة هذه المحاور لألقي الضوء على آفاق دخول المرأة عالم الاداء المقامي ولا لفنـِّها لذاتهما … ولا عن الجماليات الجديدة التي ظهرت من خلالها في الاداء المقامي فحسب … ولكن ، بالاضافة إلى كل ذلك يجب أن تطلع عزيزي القارىء على هذا الحدث الجمالي والاجتماعي والفني ، إطلاع قارىء محب له ، اذ يبدو لي انني اقتربت من تكوين فكرة لابأس بها حول الموضوع قدر استطاعتي وماسمح لي من وقت .. بحيث اردت ان يكون مدخلاً إلى فهم حدث مشاركة المرأة للرجل لا فنـِّها فقط .. أريد ان اثير فضولك عزيزي القارىء الكريم وتحفيزك في التعرف على عوالم اخرى تخص الاداء المقامي غير مااعتدت عليها .. اردتُ ان تطلع على اجواء التعابير النسوية وهي تؤدي تراثاً احتكره الرجل لوحده طيلة القرون الماضية … بدون هذه الاضواء لا نستطيع فهم الحدث ولا نستطيع فهم المرأة ولا نفوذ تعابيرها المقامية .. بصورة تفي بحقيقة امكانياتها وتفي بقيمة الحدث وبقيمة الاداء المقامي بصوت المرأة في القرن العشرين . لأن في هذا الاداء الذي اتسم لاول مرة برقة المرأة ، نماذج مدهشة وجريئة من الابداع ، وبالطبع ، فقد تُقبلْ هذه النماذج كلاً أو بعضاً أو قد ننكرها كل الانكار ..! ولكن في حقيقة الامر اننا في كل الحالات معترفون بأصالتها .. معترفون بأنها نسوية تستحق الاهتمام والتوقف .. والموقف التاريخي يقضي .. بأن الرجل لايجب ان يلعب الدور وحده في غناء المقام العراقي وموسيقاه ، بل يجب مشاركة نصفه الآخر ..
ان المرأة ومنذ زمن قارب المائة عام ادركت انها يجب ان تعيش حياتها اسوة بنصفها الأخر .. وليس هذا الموقف نتيجة تخيلات اسطورية ولكن حقبة التحول التي عمّت المنطقة .. والنهضة الجديدة لغناسيقى العراق الحديث مطلع القرن العشرين .. ومن ذلك أيضاً الموقف الفني والثقافي في الاداء المقامي وموقف الابداع الفني ونماذجه فيه .. خاصة وأننا منذ حقبة التحول هذه ، التي تميزت بدخول المرأة العراقية عالم الموسيقى من جديد .. وفنانو المقام العراقي هم منه في شأن وطريقة وابتكار وصراع … فالظروف قد ساعدت والوسائل قد تيسرت .. وعلى هذا الحال استمرت .. وما تزال .
(3)
اعماق التعابير المقامية
ان الاداء المقامي برجاله ونسائه من المؤدين والمؤديات يحمل في أعماقه خزائن عظيمة من حياة الشعب العراقي … يحمل في صياح اخرس ، كل شقاء الآباء والأجداد ، كل محنهم .. كل استغاثاتهم .. كل احتجاجاتهم .. كل مصائبهم .. كل تمردهم من ظلم المحتلين في مجاهل القرون السبعة التي عاشها العراقيون منذ نهاية العباسيين … ان الاداء النسوي في المقام العراقي ، جنباً إلى جنب مع الرجل .. أداء مخلص .. وهو حقيقة الرجل العراقي والمرأة العراقية .. وسواء أثـَّرت التكنولوجيا سلباً في بعض جوانبها أم لم تؤثر .. فان الاداء المقامي التراثي لايمكن ان يعبر بغير الصدق والامانة ..
(4)
من ناحية اخرى موجبة لهذا البحث .. ان فن الاداء المقامي بأصوات النساء .. فن مجهول بالنسبة للتجربة المقامية .. وقد نعرف ونعلم الكثير عن المرأة .. في الادب والشعر أو جوانب أخرى ، ولكننا في غيبة مطلقة عن مشاركاتها في الفنون الموسيقية الغناسيقية طيلة الفترة المظلمة .. التي مربها العراق ، عبثاً حاولت المرأة في هذه الفترة كما يبدو ان تفك قيودها وظلت محـاولاتها دون جدوى … لقد وضع الرجل نفسه سيداً دون منافس وصم آذانه لا يسمع إلا نفسه ! لا يعير اهتماماً لمواهب المرأة ابداً .. وفي القرن العشرين اختلف الامر .. فنحن نرى ان الثقافة الادائية في المقام العراقي رجالها ونسائها تعانقت في تيار مقامي جامع رغم بعض الاختلافات والتنافرات … انها محاولة لمعرفة امكانيات المرأة في فن الاداء المقامي من خلال ممارستها له منذ عشرينات القرن العشرين .. ومن خلال خواصها كامرأة .. ومن خلال تاريخ الاداء المقامي بصورة عامة .. إنها تحسس للفن الغناسيقي التراثي الذي برز منه فن الاداء المقامي .. ذلك الفن ذو المذاق الخاص والعمق التاريخي .. وكما لم يهتم عموم الوسط المقامي منذ البداية باعطاء اهمية لدخول المرأة عالم التراث الغناسيقي والمقام العراقي على وجه التخصيص ، كذلك مااهتم احد بدعم هذه المحاولات النسوية ، وندر منهم من اهتم بهذا الجانب الحيوي ، ولذلك لم يعرف تاريخنا في العراق الشيء الكثير عن هذا الاندماج والممارسة النسوية لفن الاداء المقامي .. وفي الكتابات النادرة حول هذا الموضوع هنا وهناك .. لم يتوغل احد في الحديث عن اعماق هذه المحاولة وهذا الحدث المهم .. فبقيت اكثر الكتابات سطحية في مضامينها .. ورغم ذلك فقد مضت حقبة طويلة من الزمن قبل ان يكتب عن المرأة الفنانة في الأداء المقامي ..
(5)
رفض الرجل لفنون المرأة
من ناحية اخرى ، مضت السنون .. وممارسة المرأة لفن الاداء المقامي بغنائها لبعض المقامات العراقية . اهون من ان تكون ضمن اهتمامات اهل المقام الذين رفضوا هذه المحاولات منذ البداية .. والغريب في الامر ، انها بقيت مرفوضة طيلة عقود عديدة من القرن العشرين على وجه التقريب وعليها الكثير من التحفظ ، خاصة من قبل المؤدين التقليديين من الرجال ..!! فهم واقفون لها بالمرصاد ، يرصدون ما تقع فيه من اخطاء فنية دون أن يحاولوا التماس العذر لها على خطواتها الاولى .. ولذلك لم تحتل المرأة مكانها الطبيعي وبما تستحقه إلا في العقود الأخيرة من القرن العشرين حيث بدأت المرأة تمارس حقها في الفن والحياة أكثر من أي وقت مضى .. وهذا يدل أيضاً بأن الوسط المقامي ما يزال يعيش بقية من جهالة القرون الماضية ..
(6)
امكانيات المرأة
في الواقع انك حين تتحدث عن المرأة ، أدباً أو فناً أو امكانية أو فكر … فانك انما تتحدث عن بعض ماتمتلكه المرأة .. اما الامتداد الاكبر فيما يخص موضوعنا فله شأن اخر خارج الحساب وخارج الوصف .. لانه عالم اخر قائم بذاته ، كان حتى الامس القريب وإلى ماقبل القرن العشرين تقريباً ، العالم المجهول الحاوي على الاسرار .. انه عالم التعابير الرقيقة الحالمة الخلابة التي تتميز بها المرأة .. معاناة خاصة .. مشكلات خاصة.. اسرار خاصة .. كل ذلك بدا ظهوره مطلع القرن العشرين .. عهد غير بعيد .. لم تكن تأوي إلى هذا المحيط الغناسيقي إلا من تنشد تلبية طموحاتها في التعبير عن مكنوناتها ، في الظهور ، في الشهرة ، في الاستمتاع .. كانت ملاهي بغداد وملاهي المدن الاخرى تضم العدد الكبير من هؤلاءِ المطربات من النساء حتى جاءت الشركات بعد ظهور اجهزة التسجيل والمذياع .. فاتيحت الفرص الكثيرة لهن مما سهل عليهن مهماتهن .. ومع ذلك فكثير منهن قد ضعن ولم يواصلن فنونهن والاسباب مختلفة ليس نحن بصددها الان .. على كل حال .. ان المفاجئة والدهشة من هذا الحدث ، اخذتا بالزوال ومن ثم الاعتياد عليه.. وبدأت اسرار التعابير النسوية بالظهور ، واخذ جبروت الرجل يضمحل رويداً رويداً بالرغم منه وقد استسلم للامر الواقع .. وامتزجت فنون الرجل مع فنون المرأة وازدادت تعابير الاداء المقامي حلاوة لم يذقها المتلقي من قبل .. واليوم امست الحالة في اوج نضوجها فظهرت في العقود الاخيرة من القرن العشرين بعض المؤديات المقاميات اللواتي يشارلهن بالبنان مثل مائده نزهت فنانة القرن العشرين والمطربة فريده من الجيل المتأخر .. فكانت الاولى اول مؤدية مقامية تؤدي المقامات كاملة بأصولها التقليدية والثانية كانت اول مؤدية مقامية تنال شهادة دراسية في الموسيقى والمقام العراقي وهي تؤدي المقامات بأصولها التقليدية أيضاً .. وبذلك يعتبر هذا الحدث.. حدث دخول المرأة عالم المقام العراقي والغناسيقى بصورة عامة من اهم واضخم الانجازات الفنية لغناسيقى العراق في حقبة التحول مطلع القرن العشرين
|