چارداش (Czardas) وتعنى باللغة العربية " الغجرية " هى واحدة من أشهر القطع الموسيقية المكتوبة بالأساس للكمان المنفرد (solo violin) للمؤلف الإيطالي (فيتوريو مونتى) ألفها قبل أكثر من 120 عام وأصبحت حُلما ً لجميع عازفي الكمان المنفرد لأجل تقديمها وأخذت شهرة عالمية لجمال ألحانها وإيقاعاتها وبالأساس أسلوب الأداء الصعب (التكنيك) الذي تحتويه . استمعت لها وأنا صغير فى بيت الأستاذ (على الإمام) ثاني أساتذتي الذين قاموا بتدريسي العود ومن الذين تأثرت بهم وأذكرهم بكل خير ومن جيراننا فى منطقة (راغبة خاتون ).
في أحدى زياراتي له ومن أسطوانة قديمة أستمعت إلى " چارداش" لأول مرة وكان التسجيل للكمان والبيانو وأول ما استمعت لها ذهلت لها وأحسست برغبة شديدة لتقديمها على العود على الرغم من أنني لم أكن في ذلك الوقت أعرف أكثر من تسلسل أسماء أوتار العود وأتذكر أنني عندما سألت الأستاذ علي عن فكرة تقديم " چارداش " على العود قال لي لايمكن ذلك لأنها صعبة للغايه بل مستحيلة من حيث المستوى والأسلوب. حملت رغبتي وحلمي بصمت وبدأت أتساءل بيني وبين نفسي لماذا لا يستطيع العود تقديم هذه الموسيقى؟! وبعد أشهر التحقت بمعهد الدراسات النغمية العراقي ومع بدايات تعرفي على المبادئ الأولية للعزف على العود وتدرجي في الدراسة على يد الأستاذ ( روحي الخماش) ضلـّـت " چارداش " ترن في أذني وتدور في مخيلتي وترافقني فكرة تقديمها ليل نهار وبعد فترةٍ جمعت شجاعتي وبدأت أبحث عن المُدونة الموسيقية ( النوطة) الخاصة بها وعن طريق بعض الأصدقاء استطعت أن أحصل على مدونة قديمة لچارداش ورقها أصفر(لا زلت أحتفظ بها) وكانت مكتوبة للكمان المنفرد مع مصاحبة من قبل البيانو وقد دهشت عندما شاهدتها لأول مرة لأنها كانت مليئة بأشكال ورموز موسيقية لم أفهمها أو حتى أتعرف عليها حيث انني كنت حينها مازلت فى مرحلة البدايات من ناحية التعلم النظري والعملي وهذه أشكال إيقاعية عجيبة ومساحات صوتية لم أشاهدها في حياتي من قبل ورموز وتراكيب معقدة كما كنت لا أعرف ماهي المصاحبة الموسيقية المكتوبة لآلة البيانو ومفتاح فا لليد اليسرى وأنا أساسا ً لا أعرفه حيث كنت أتـَـلـَــمّــس طريقي فى مفتاح صول الذي يستعمل عادة ً لكتابة مدونات العود.
والواقع عندما أفكر الآن أرى أنها كانت شجاعة وجرأة عظيمة فى مجرد تفكيري بتقديم هذه القطعة الموسيقية . المهم بدأت بصمت ودون أن يعرف أحد بي لأن المحيط والنظام السائد في المعهد كان مبنيا ً أساسا ً على دراسة المقام والموسيقى الفلكلورية العراقية بالإضافة إلى القوالب الشرق أوسطية كالبشرف و السماعي وكانت مدونات المقطوعات التي نتدرب عليها ( الأغاني والبشارف والسماعيات) بسيطة جدا ً وبدائية من ناحية التدوين ولاتحتوي أي مصطلحات للأداء وليس بينها وبين " چارداش" أي رابط، ومع ذلك بدأت أكافح وأحاول وحدي وأجرب كيف يمكننى عزف هذا المقطع؟؟ وما هو رقم الإصبع الذي أضعه هنا ؟؟ وعلى أي وتر؟؟ وهكذا.. وعلى الرغم من نُدرة الوقت المتاح لي - حيث كنت أدرس الرياضيات في كلية العلوم (جامعة بغداد) والموسيقى في معهد الدراسات النغمية العراقي في نفس الوقت - إلا إنني كنت أمشي خطوةً خطوة مع " چارداش" وأكملت البداية وبدأت الصعوبات تواجهني في المقاطع التي تحتوى على (المسافات) العالية التي لم أكن اعرف حتى مكانها على العود ولكني سعيت وثابرت وكافحت ولم أستسلم أبدا ً حتى تمكنت بعد فترة من وضع الأصابع والمواضع لليد اليسرى (positions) وبذلك أحسست أنني تمكنت من إقناع نفسي أن بإمكاني تأديتها على العود.. وهذا التفكير من ناحيتي كان يتسق وينسجم مع واحد من أحلامي في إطار السعي لتطوير العود بإسلوب تقنيٍ ( أمام واقع قلة المواد المكتوبة للعود) حيث كنت أبحث عن مؤلفات مشهورة عالمياً ومكتوبة لآلات أخرى ومن ثم أعمل إعداد (arrangement) لها وأقدمها على العود وكنت مؤمنا ً ان " چارداش" نموذج رائع لكي أبدأ به.
وبجهود شخصية وكفاح عجيب بدأت بدراسة التوزيع الأوركسترالي والتأليف الموسيقي والعلوم المرتبطة بهما حيث كان من أحلامي أن أقدم " چارداش" مع الأوركسترا وليس مع آلةٍ منفردة وعلى هذا الأساس بدأت بإعادة توزيعها ، والواقع بدأت فى إعادة خلق هذه القطعة وكتابتها للعود والأوركسترا في العام 1996 وسجلت النسخة الأولية منها في (ستوديو صادق) في بغداد عام 1997 وكنا نستعين بالحاسب الآلي ( الكمبيوتر) لأجل الحصول على أصوات الأوركسترا حيث لم يكن ممكنا تسجيل العمل مع أوركسترا لظروف الحصار التي كنا نعيشها في بغداد آنذاك حيث ساعدني في ذلك كل من الأخ (صادق جعفر) صاحب الأستوديو والأخ الفنان ( محمد أمين عزت ) الذي قام بأعمال الكمبيوتر ومن ثم أضفت العود في الإستوديو. وكمؤلف موسيقي أضفت الكثير إلى الموسيقى الأصلية حيث أن القطعة تبدأ بالأساس ( في النسخة الاصلية) بمازورة ونصف من التآلفات (chords) على البيانو ثم يدخل الكمان أما أنا فقد بدأت بالعكس حيث بدأت بجميع آلات الأوركسترا (Tutti) بدخول قوي وضخم كأن الأوركسترا ترحب بالعود وتقدم شخصية مهمة حيث أردت ألا يكون العود مجرد ديكور مع الأوركسترا وإنما يكون دوره أساسي وفردي أشبه بمقطوعة موسيقية لآلة منفردة مع أوركسترا(concerto) حيث يتبادل العود الدور مع الأوركسترا وكذلك أضفت إرتجال (improvisation) للعود بعد الإنتهاء من اللحن الرئيسي الأول ومن ثم تقوم الأوركسترا بأقسامها الأربعة ( الوتري والخشبي والنحاسي والإيقاعي ) بإعادة اللحن الرئيسي .
وبعد دخول اللحن السريع المشهور يبدأ تبادل الأدوار بين العود والأوركسترا حتى نهاية الموسيقى وفي أحد المقاطع قمت بإستخدام إيقاع المقسوم كصبغة شرق أوسطية للقطعة وفي المقطع الأساسي الثاني والمكتوب في مقام ري الكبير قمت بإدخال العود على إيقاع (Swing) حيث لم يكن موجود فى القطعة الأصلية كما قمت بتغيير الختام وعمل إضافة وجعلت الأوركسترا تُمهد الطريق وتفسحه للعود لإنهاء العمل الذي أكملته بتوقيع اسمي موسيقيا ً . قمت بتسجيل " چارداش " فى أرمينيا عام 2007 مع أوركسترا ساكو (SAKO Orchestra) وكان الجو بارد جدا وبعيدا عن المكان الذي استمعت فيه إلى جارداش لأول مره بآلاف الكيلومترات حيث كان ذلك حافز لي لكي أُوثق وأُسجل هذا العمل . بعد ذلك حضرّنا لتصوير " چارداش" في فيديو كليب قام بعملِه فريق عمل تحت إدارة المخرج الفنان (آشوت مكرتجيان) وقد رويت له عندما جلسنا أول مرة - للإعداد للعمل - قصتي مع هذه الموسيقى وأعجب بها جدا ً وعلى هذا الأساس تم وضع السيناريو للتصوير وأردنا أن نكـّـرم هذا الفتى الإنسان الشجاع الذي حلُم بتقديم جارداش ولذلك وبعد دخول الأوركسترا تظهر صورتي (مع والدتي وإخوتي) عندما استمعت إليها لأول مره ذات يوم في راغبة خاتون- بغداد.. وهذه هي قصتي مع چارداش.. ****
قبل أن أودّعكم على أمل اللقاء في تأملات موسيقية أخرى.. إسمحوا لي أن أدعوكم لمشاهدة الفديو كليب الخاص ب" چارداش" على أمل الإستمتاع بها..
أرجو أن تذهبوا إلى الرابط التالي:
|