قبل ان يقيم معرضه في بيروت بشهور ارسل لي سلام عمر عددا من رسومه الاخيرة وكتب قائلا :" لقد مررت بظروف قاسية جدا فرسمت بحرية دون الرجوع لأي قوانين في الرسم ". لو تسنى لي ان اسأله عن قوانين الرسم التي تخلى عنها بالحرية لما عرف الجواب . ازاء ذلك لست متأكدا إذا ما كان الرسامون الذين عرفتهم يرسمون بقوانين الرسم ام بقوانينهم الخاصة إذا افترضنا اننا نتحدث عن مبدعين حقا. ما هي قوانين الرسم؟ لا ادري . الرسامون المجدون يتعلمون قاعدة ويغادرون اخرى ، وبمرور الزمن ينسون او لا يعودوا واثقين من القواعد او القوانين ، فلقد غادروها أو رجعوا اليها من دون ادراك واضح انهم غادروا أو عادوا. سلام عمر لا يشذ عن هذا التقدير، وعمله الفني الذي يمتاز بالاناقة واستخدام المواد الفنية المتنوعة، يتبع قواعد ذوقية شخصية تتغير نغمتها وطبيعتها حسب الحاحات التجربة وتكامل عناصرها الجمالية. أظن أن سلام عمر أراد أن يبلغني أمراً لم يستطع ان يقبض عليه بعد. أمر يقع في حدود تجربة جديدة ربما لم يتوقعها. إنه اكثر تجريدية بكثير من ان يعود الى تشخيصية مباشرة ، وأقل تجريدية لكي يرسم وجوها، كما أنه يولي المواد الفنية اهتماما كبيرا ولعله يسبغ عليها تفسيرا يتعالى على أي وجهة نظر تستخدم الجسد الانساني لإشباع ميول رمزية . والآن ها هو يرسم وجوها بشرية منحها تعابير قديسين. ماذا يحدث؟ أخمن أنه اخترق واحدة من قواعده الشخصية ، ميوله ، عادات عمله ، مفاهيمه الجمالية، وعبرها أدرك انه ربما في مأزق ما دام قد اخترق توقعاتنا. إن انعكاسات الاختراق الاخير مهمة ، لأنها تشكل مرآة عمله عند الاخرين ، وكثيرا ما ينعكس على هذه المرآة سوء الفهم، وما يترتب عليه من توضيحات يجريها الفنان، من دون كفاءة في بعض الاحيان، ومضطرا في الكثير من الاحيان.
تخمين لا أعير كلمات الفنانين عن عملهم الفني الكثير من الاهتمام ، ومن دون أن أهملها اراها حاشية لاثارة التعاطف، وأحيانا اعاملها كمفاتيح دلالية لا تنجح بالضرورة فتح ما غمض من العمل الفني . ها هو يدعى إنه رسم بحرية من "دون الرجوع لأي قوانين في الرسم"، ومن كان بتجربته حقا لن يعبأ اصلا بقوانين الرسم، هو يعرف هذا، فلماذا اشار اليها؟ لانه على نحو ما اراد تحفيزي لأدقق النظر برسومه ، ولأن رسومه جاءت بعد تجربة من الصعوبة شرحها ، لعلها تجربة روحية ، أو معاناة . لعله شعر انه في مأزق جرى انقاذه منه في لحظة غير متوقعة ، شيء قريب من المعجزة والسحر ، شيء روحاني خارج الرسم تداعى وتجسد في اناء فني ، خبرة تحدث للفنانين الحساسين ، بيد انها تحدث للفنانين العراقيين على مدار الساعة اثناء احتياجاتهم للحظ ولأدعية امهاتهم . إنني أخمن وعيني على رسوم القديسين الذين رسمهم سلام مستعيرا بعض الملامح الخاصة للقديسين المسيحيين مع قديسين بملامح شرقية او تعابير اسلامية . وإذا ما جاز التعبير ، فقد رسم عددا من اللوحات المكرسة لعائلة كبيرة من القديسين والقديسات. والحال إن صنيعه ينسجم مع حالة سيكولوجية تلف العراق كله، فالحالة السياسة العراقية تنتج صورا ايقونية قياسية عن طريق توليف بين الايقونات القديمة والايقونات الجديدة في عرض شعبي ديني وسياسي واديولوجي . هذا الانتاج بدأ ينمو ويزدهر في ظل مقالق ومخاوف جمعية يجري استخدامها واعادة توجيهها سياسيا. بالطبع لا تتماثل تجربة سلام عمر التعبيرية مع الايقونية القياسية شبه الشعبية، بيد ان صدور الاولى عن "تجربة" اظنها شبه دينية، يجعلنا ازاء انعكاسات متبادلة على المستوى النفسي والعاطفي. إن الوضعية العراقية الحالية المليئة بالعنف والموت والقلق، تولد تولهات واستيهامات صوفية، واهتمامات وتطلعات ميتافيزيقية، تملأ الوعي الفردي وتشحنه عاطفيا . إن تحول الايقونات الى تمائم في هذه المطحنة أمر متوقع.
علاقة وأمثلة ثمة علاقة بين المناخات السياسية والاجتماعية والانتاج الفني ، الا انه لا يمكن توقع نتائجها على نحو محدد، مثلما لا نضمن ظهورها في جميع الانتاج الفني ، وبنفس الاسلوب. فبعد حرب عام 1991 زاد الاهتمام التقني عند عدد من الفنانين الشباب ، كمظهر من مظاهر الحرية الفنية التي تخفي تطلعات في الحرية السياسية . ليس الاختيار التقني بريء ، وفي ظروف معينة يحظى هذا الاختيار بقيمة رمزية عالية. إن افضل المعارض الفنية بالمقاييس الحرفية النسبية اقيمت عندما ضعفت قبضة النظام السياسي بعد حرب 1991 ، وبالمقابل نتج عن ضعف المؤسسة الفنية الرسمية صعود نجم المشروع الحر المتمثل بالكاليرهات الاهلية. هناك تجربة اخرى اريد ان اضعها بموازاة اعمال سلام عمر وتصريحه الشخصي توضح إن ردود فعل الفنانين على الوضعيات التاريخية المعاشة قد تفاجئنا ، بل قد نعدها ضربا من الهروب . المعروف أن كل رسم يعود الى رسم . وفي سياق انتاجي فني لعدد من الفنانين ثمة خطوط انساب واستعارات وتأثرات تفضي الى تجارب مختلفة، ومضامين مختلفة، حتى وإن كانت متقاربة في الموضوع . في هذا السياق ارى أن رسوم سلام عمر متأثرة برسوم اسماعيل فتاح الترك ، بيد انها طوت تعبيريا رسوم الترك تلك التي انتجها بعد حرب 1991 . فاهتمام التجربتين ينصب على رسم الوجوه ، بيد انهما غير متماثلتين في الحس العاطفي والروحي والهدف المتوخى منها. أنتج الترك بعد عام 1991 اعمالا في الرسم تختلف عن أعماله التخطيطية السابقة التي لا تكاد خطوطها تتماسك ، نظرا لتقشفها الشديد ، وقربها من روحية قصائد بصرية ذات مسحة ايروتيكية. وعلى العكس جاءت رسومه بعد الحرب باذخة اللون، مبتهجة، في حين انها مثلت تعابير وجوه مختزلة الى حد انها اقتربت من الاقنعة. وعلى الرغم من كثرة هذه الوجوه ، الا انها متماثلة في اختزاليتها وضمور اي تعبير شخصي لها . والحال إن ما ميز فردية تلك الاعمال في سياق انتاجها الموحد هو اللون ، اللون وحده ، بسطوعه ، وكثافته، ولاسيما إن الفنان استخدم الوان الاكريلك القوية. اللون اغراء ثابت ، ومن السهل ان تتقبله عيوننا، وقد تعمد الفنان استخدامه بغزارة ليضمن تأثيره البصري. في ما بعد ، وقد واصل الفنان احتفاليته اللونية، لوّن بعض اعماله الكرافيكية بعد الانتهاء منها طباعيا، ما اثار عليه بعض التحفظات. لقد لون حتى الاطارات، بل وهو الذي يكره النقوش وضعها بلهو واضح على اطارات لوحاته. سألته: ما الذي يحدث؟ ما كنت اتوقع مثل هذا العرض السعيد في زمن الخراب. الا ان الفنان من دون أن يلف ويدور أجابني : إنها تجربة قدمت لي الحرية والمتعة ! إجابة قوية لا يمكن معارضتها باسم المآسي التي تحيطنا . ولا اعدم ان الفنان انما صاغ على نحو ما دعوة للتحرر والاعتماد على التجربة الحسية على عكس الضجيج الاعلامي والاديولوجي الذي قام به النظام السياسي لدمج الناس واعادة توجيههم. ثمة تجربتان برسم الوجوه اذن ، مختلفتان في الروحية واللون العاطفي والاسلوب ، متباعدتان في الزمن ، استجابتا الى وضعية تاريخية محددة كلا على طريقتها. تصف كلمة (تجربة) الشائعة بين الرسامين الصفة التي تظهر بها معارضهم الفنية، أو مجموعة اعمال تربطها فترة زمنية محددة وارادة خاصة بالعرض ويلونها مزاج انفعالي او تشدها ثيمة محددة. بكلمات قليلة نتعرف هنا على تجربتين فنيتين ، كلمات لا تلقي حزمة ضوء على الاعمال الفنية بل تلقي انعكاسات ضوء وظلالها المتمرجحة ، تحافظ على الغموض فيما هي تفتح الطريق الى تلقيها. سيصف سلام عمر تجربته بأنها نتاج "ظروف قاسية جدا" ، واسماعيل الترك يصف تجربته بأنها قدمت له الحرية والمتعة ، بيد اننا لن نكون واثقين حقا ، فالكلمات تعيننا على فهم الطريقة التي يستقبل الفنانون انفسهم فيها تجاربهم فضلا عن تبريرها ، بيد اننا لن نفهم دلالاتها بعمق الا بفحص الاعمال الفنية نفسها، وفحص الوضعية الثقافية التي تحيطهم .
مجمع القديسين(*) في تجربة فنية سماها سلام عمر "وجوه من الذاكرة" رسم على مساحات واسعة نسبيا مجاميع من وجوه القديسين المتجاورة . كيف نعرف انها لقديسين؟ لوجود تشابهات ايقونية مع تعابير اضافية وهالات. بيد انني لم افهم معنى العنوان الذي اختاره المنشور في الصحافة ، فلا ذاكرته ولا الذاكرة الشعبية تحيط بوجوه القديسين . إن كلمة ذاكرة هنا لا تصف تجربة حسية الا في حدود الرسم الذي هو تجربة حسية كما هو خبرة في الحساسية الشخصية . في غير هذا الحقل التعبيري لا يحضر القديسون في تجاربنا المباشرة الا في الاحلام والخبرات الرهيفة الفائقة للعادة والاسقاطات التي تجري في شروط الرهبة والانسلاخ . لكننا نجد القديسين التاريخيين في مواقعهم الايقونية او في الرسوم الشعبية الاحتفالية التي اذا ما استعرناها او الهمتنا فهي لن تكون تنويعات عنها بل تجربة خاصة بالرسم . التسمية على اية حال ليست مهمة كثيرا مقارنة بالشحنات العاطفية التي أودعها الرسام في رسومه والمعاني التي يعتقد انه اسبغ عليها والتي لخصها في جملته المختزلة التي بعثها لي . إن ما هو مثير في هذه التجربة التعبيرية أن الفنان قام بجمع الشخصيات المقدسة الاسلامية والمسيحية معا ، جمع تعابير الرضا والسماحة والتهذيب لوجوه القديسين على اختلاف الوانهم واطيافهم مؤكدا على انسانيتهم وروح الشفقة والتعاطف وقوة الشخصية التي تشع من تعابيرهم. ولعله بهذا الجمع تجاوز خبرته الشخصية الخاصة التي استطيع ان استنتجها من زمنه الصعب، الى مشروع مجتمعي من حيث التعريف ، ضاماً استخاراته الشخصية من اجل النجاة ، ومخاوفه اليومية، الى تركيب اوسع . إذا كان هذا مشروع وحدة ، والفنانون والمثقفون افضل من يقوم به ، فإنه يسجل كذلك تحليلا سياسيا مضمرا يقوم على المخاوف من استخدام القداسة في اعمال ظلامية. إن مشروع الوحدة مبرر تماما بأمثلة حسية على استخدام المقدس في تمرير الضلالة والقتل والكذب. فنان مثل سلام عمر يدرك ان الايقونات التي ترفع فوق الرؤوس مع الزمجرة لا تختلف كثيرا عن رفع الشعارات السياسية القائمة على الاستفزاز والحقد . وفي هذا السياق يحاول ، على طريقته، وليس بمعزل عن محاولات المثقفين والمتنورون والعقلانيين العراقيين، سحب الايقونية الضلالية في اهدافها التعميمية من الشارع، مع ارجاع عناصرها الانسانية وردها الى تطلعات روحية اصيلة، حيث التعليم المستمر ، والتأمل المثمر ، والحب ، والتسامح ، والغفران، يتخذ شكلا تعبيريا لا تخطئه العين : العينان تشعان الى الخارج فيما تنظران الى الداخل، الصفاء الذي يوحي بالثقة ، روح الكارزما دون ضغط ولا عرض قوة ، العفة التي لا تخاطبنا باللعنات والتهديد. ثمة وظائف مزدوجة تقوم بها الايقونات في خدمة شعارات سياسية تارة ، وأخرى عندما نستعين بها لتعيننا على تهذيب حياتنا ، بل وحراستنا من المتربصين بنا في الطريق بين بيوتنا وعملنا . إنني اخمن ان سلام عمر الذي افاد انه مرّ بظروف صعبة ورسم ما رسم استنجد بجميع القديسين واستخار قواهم الرحمانية من اجل معجزة ، ولست ادري ، إذ خشيت أن اسأله، ما إذا حلت المعجزة ، أو ارتضى بنصفها العجائبي الذي جعلته يعبر حياً ويواصل العمل وهو يتمتم باسم المنقذ؟
------------------------------------- (*) ملاحظة: كنت قد كتبت مجموعة من الملاحظات بشأن التجربة الفنية الجديدة لسلام عمر حال تسلمي رسالته وصوره قبل اشهر عديدة. ثم انشغلت عنها ، ولم استعدها واطورها الا بعد حادثة كنيسة سيدة النجاة في الكرادة. لقد بدا لي إن مشروع الوحدة في مجمع القديسين الذي باشره سلام عمر عمّد بالدم . الا إنني بت اكثر يأسا من أن اتوقع أن "مجمع المؤمنين" سوف يتوصل الى استنتاجات صحيحة. إن المجمع الاخير مهم لكل قداسة نحتكم اليها أو نظن ان عيونها تحرس دربنا ، في حين إنه إما نائم ، وإما مخدر ، وإما عاجز ، وإما اسلس زمام أمره الى سياسيي الوعود والغدر. لقد بات تلويث المقدس عادة يومية في العراق . ما المقدس غير الحياة.. حياة ابن آدم الذي سجدت له الملائكة؟ لقد نسوا ما جاء في الكتاب. السياسة تلوث المقدس ، إما وهي رعناء عمياء لا حياء لها ، فسوف نحتاج الى معجزة هائلة تقف خلفها ملايين الادعية والاستخارات لتطهر ما سفل منها على ارضنا أو اندس في ارواح مواطنينا البؤساء. |